وقولهم: «إنّ التّوكُّل بدلٌ من الأسباب التي رفضها، فالمتوكِّل متنقِّلٌ من سببٍ إلى سببٍ». يقال لهم: إن كانت الأسبابُ التي رفَضَها غيرَ مأمورٍ بها، فالتّوكُّلُ المجرَّدُ خيرٌ منها. وإن كانت مأمورًا بها. فرفضُه لها إلى التّوكُّل معصيةٌ وخروجٌ عن الأمر.
نعم، للتّوكُّل ثلاثُ عللٍ:
أحدها: أن يترك به ما أُمِرَ به من الأسباب استغناءً بالتّوكُّل عنها. فهذا توكُّل عجزٍ وتفريطٍ وإضاعةٍ، لا توكُّلُ عبوديّةٍ وتوحيدٍ؛ كمن يترك الأعمالَ التي هي سببُ النّجاة ويتوكَّلُ في حصولها، ويتركُ القيامَ بأسباب الرِّزق من العمل والحراثة والتِّجارة ونحوها ويتوكَّلُ في حصوله؛ ويترك طلبَ العلم ويتوكَّل في حصوله= فهذا توكُّلُه عجزٌ وتفريطٌ، كما قال بعض السَّلف: لا تكن ممَّن يجعل توكُّلَه عجزًا، وعجزَه توكُّلًا.
العلّة الثّانية: أن يتوكَّل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربِّه، كمن يتوكَّل في حصول مالٍ أو زوجةٍ أو رياسةٍ. وأمّا التّوكُّلُ في نصرة دين الله وإعلاء كلماته، وإظهار سنّة رسوله، وجهاد أعدائه. فليس فيه علّةٌ، بل هو مزيلٌ للعلل.
العلّة الثّالثة: أن يرى توكُّله منه، ويغيب بذلك عن مطالعةِ المنّة وشهود الفضل، وإقامةِ الله له في مقام التّوكُّل. وليس مجرَّدُ رؤية التّوكُّل علّةً كما يظنُّه كثيرٌ من النّاس، بل رؤيةُ التّوكُّل وأنَّه من عينِ الجود ومحضِ المنّة ومجرَّدِ التَّوفيق عبوديّةٌ، وهي أكمَلُ من كونه يغيب عنه ولا يراه. فالأكمَلُ أن لا يغيب بفضل ربِّه عنه، ولا به عن شهود فضله، كما تقدَّم بيانه.
فهذه العللُ الثّلاثُ هي التي تعرض في مقام التّوكُّل وغيره من المقامات، وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها. وهكذا الكلام في سائر علل المقامات، وإنّما ذكرنا هذا مثالًا لما يذكر من عللها. وقد أفرد لها صاحبُ «المنازل» مصنّفًا لطيفًا، وجعل غالبَها معلولًا. والصَّوابُ: أنَّ عللها هذه الثّلاثة المذكورة: أن يتركَ بها ما هو أعلى منها، وأن يعلِّقَها بحظِّه والانقطاعُ بها عن المقصود، وأن لا يراها من عين المنّة ومحض الجود. وبالله التّوفيق.
مدارج السالكين (4/ 495 – 496 ط عطاءات العلم)