سبيل الزنا واللواط أسوأ سبيل في الدنيا والآخرة

والزنا يجمع خلال الشر كلها: من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة؛ فلا تجد زانيا معه ورع ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله؛ فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرم وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.

ومن موجباته: غضب الربّ بإفساد حَرَمِه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بذلك لقابله أسوأ مقابلة.

ومنها: سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين.

ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره، وهو الذي أوجب طمس نور الوجه وغشيان الظلمة له.

ومنها: الفقر اللازم، وفي أثر يقول الله تعالى: "أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة".

ومنها: أنه يُذهب حُرمة فاعله، ويسقطه من عين ربّه ومن أعين عباده.

ومنها: أنه يسلبه أحسن الأسماء، وهو: اسم العفة والبرّ والعدالة، ويعطيه أضدادها كاسم: الفاجر والفاسق والزاني والخائن.

ومنها: أنه يسلبه اسم المؤمن كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان، وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث فخط دائرة في الأرض وقال: هذه دائرة الإيمان ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها، وقال هذه دائرة الإسلام؛ فإذا زنا العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه.

ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنا كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها، ومعه جزء من الشجاعة والجود ولا يسمى بذلك شجاعا ولا جوادا، وكذلك يكون معه شيء من التقوى ولا يسمى متقيا، ونظائره.

فالصواب إجراء الحديث على ظاهره ولا يُتأوّل بما يخالف ظاهره، والله أعلم.

ومنها: أن يُعرِّض نفسه لسكنى التنور الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزناة والزواني.

ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة كما قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) [النور: 26]

وقد حرم الله الجنة على كل خبيث؛ بل جعلها مأوى الطيبين ولا يدخلها إلا طيب، قال الله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] وقال تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73] فإنما استحقوا سلام الملائكة ودخول الجنة بطيبهم، والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله سبحانه جهنم دار الخبث وأهله؛ فإذا كان يوم القيامة مَيّز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث بعضه على بعض ثم ألقاه وألقى أهله في جهنم؛ فلا يدخل النار طيب، ولا يدخل الجنة خبيث.

ومنها: الوحشة التي يضعها الله سبحانه وتعالى في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أُنْسٌ، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة، ومن جالسه استوحش به.

ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم؛ بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة.

ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته ولا على ولده.

ومنها: الرائحة التي تفوح عليه يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده، ولولا اشتراك الناس في هذه الرائحة لفاحت من صاحبها ونادت عليه ولكن كما قيل

كلٌ به مثل ما بي غير أنهم ... من غيرة بعضهم للبعض عُذّالُ

ومنها: ضيقة الصدر وحَرَجُه؛ فإن الزناة يعاملون بضدّ قصودهم؛ فإن من طلب لذّة العيش وطِيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له.

ومنها: أنه يُعرّض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة؛ فكذلك من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا؛ بل كل ما ناله العبد في الدنيا فإن توسع في حلاله ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه، وإن ناله من حرام فاته نظيره يوم القيامة.

ومنها: أن الزنا يجرِّؤه على: قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرا إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك وهو يدري أو لا يدري؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أُخر من المعاصي بعدها، فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عزّ على الناصحين استنقاذه، وأعيى الأطباء دواؤه؛ فأسيرها لا يُفدى، وقتيلها لا يُوْدَى، وقد وكّلها الله سبحانه بزوال النعم؛ فإذا ابتلي بها عبد فليُوِّدع نعم الله فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53] وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11].

فهذا بعض ما في هذه السبيل من الضرر.

وأما سبيل الأمة اللوطية: فتلك سبيل الهالكين، المُفضية بسالكها إلى منازل المعذّبين الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات مالم يجمعه على أمة من الأمم، لا من تأخر عنهم ولا من تقدم، وجعل ديارهم وآثارهم عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين.

وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا يُنكح كما تُنكح المرأة؛ فجمع أبو بكر رضي الله عنه لذلك ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاستشارهم، فكان علي رضي الله عنه أشدهم قولا فيه، فقال: إن هذا لم يعمل به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقوه بالنار. فأحرقوه بالنار.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة والتابعين: يُرجم بالحجارة حتى يموت، أُحصن أو لم يُحصن. ووافقه على ذلك الإمام أحمد وإسحاق ومالك.

وقال الزهري: يُرجم أُحصن أو لم يُحصن سُنّةٌ ماضية. وقال جابر بن زيد في رجل غشي رجلا في دبره، قال: الدبر أعظم حرمة من الفرج، يرجم أحصن أولم يحصن. وقال الشعبي: يقتل أحصن أو لم يحصن.

وسئل ابن عباس عن اللوطي ما حده؟ قال: يُنظر أعلى بناء في المدينة فيرمى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة. ورجم عليٌّ لوطيا وافتى بتحريقه. وكأنه رأى جواز هذا وهذا.

وقال إبراهيم النخعي: لو كان أحد ينبغي له أن يُرجم مرتين لكان ينبغي للوطي أن يرجم مرتين.

وذهبت طائفة إلى أنه: يرجم إن أُحصن، ويجلد إن لم يحصن. وهذا قول الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وعطاء بن أبي رباح.

قال عطاء: شهدت ابن الزبير أُتي بسبعة أُخذوا في اللواط أربعة منهم قد أُحصنوا وثلاثة لم يحصنوا؛ فأمر بالأربعة فأخرجوا من المسجد الحرام فرجموا بالحجارة، وأمر بالثلاثة فضربوا الحد، وفي المسجد ابن عمر وابن عباس.

فالصحابة اتفقوا على قتل اللوطي، وإنما اختلفوا في كيفية قتله؛ فظن بعض الناس أنهم متنازعون في قتله، ولا نزاع بينهم فيه إلا في إلحاقه بالزاني أو قتله مطلقا.


روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص:360- 364)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله