السلف جميعهم على ذمِّ الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة، وأنه لا يحِلُّ العملُ به لا فُتيا ولا قضاءً، وأنَّ الرأي الذي لا يُعلَم مخالفتُه للكتاب والسنَّة ولا موافقتُه، فغايتُه أن يسوغ العملُ به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه.
قال أبو عمر بن عبد البرِّ: ثنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا عبد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه أنه كان يأتي ابنَ وهب فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم. فيقول له ابنُ وهب: اتَّقِ الله؛ فإنَّ أكثر هذه المسائل رأي. وقال الحافظ أبو محمد: ثنا عبد الرحمن بن سلَمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد، أخبرني محمد بن عمر بن لُبابة، ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: كان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي، وأحبَّ الفتيا بما روي من الحديث، فأعجلته المنيةُ عن ذلك.
وقال أبو عمر: وروى الحسن بن واصل عن الحسن أنه قال: إنما هلك مَن كان قبلكم حين تشعَّبت بهم السُّبُل، وحادوا عن الطريق، وتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلُّوا وأضلُّوا.
قال أبو عمر: وذكر نُعَيم بن حماد، عن أبي معاوية، عن الأعمش عن مسلم، عن مسروق: من يرغَبْ برأيه عن أمر الله يَضِلَّ.
وذكر ابن وهب قال: أخبرني بكر بن مُضَر عن رجل من قريش أنه سمع ابنَ شهاب يقول، وهو يذكر ما وقع فيه الناسُ من هذا الرأي وتركِهم السُّنَنَ، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقُّوا الرأي وأخذوا فيه.
وذكر ابن جرير في كتاب تهذيب الآثار له عن مالك قال: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تمَّ هذا الأمر واستكمل؛ فإنما ينبغي أن تُتَّبع آثارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُتَّبع الرأيُ؛ فإنه من اتَّبع الرأيَ جاء رجلٌ آخرُ أقوى منه في الرأي فاتَّبعه، فأنت كلَّما جاء رجلٌ غلبك اتبعتَه.
وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك، عن عبد الله بن وهب أنَّ رجلًا جاء إلى القاسم بن محمد، فسأله عن شيء، فأجابه فلما ولَّى الرَّجلُ دعاه، فقال له: لا تقل: إنَّ القاسم زعَم أنَّ هذا هو الحقُّ، ولكن إذا اضطُرِرتَ إليه عملتَ به.
وقال أبو عمر: قال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس، وهو يُنكِر كثرةَ الجواب للمسائل: يا عبد الله، ما علمتَه فقُلْ به، ودُلَّ عليه. وما لم تعلم فاسكُتْ. وإياك أن تتقلَّد للناس قِلادةَ سَوءٍ.
قال أبو عمر: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخُشَني، أنا أبو عبد الله محمد بن عباس النحاس قال: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن محمد الحدَّاد يقول: سمعتُ سَحنونَ بن سعيد يقول: ما أدري ما هذا الرأي، سُفِكتْ به الدماء، واستُحِلَّتْ به الفروج، واستُحِقَّتْ به الحقوق، غير أنَّا رأينا رجلًا صالحًا، فقلَّدناه.
وقال سلَمة بن شَبِيب: سمعتُ أحمدَ يقول: رأيُ الشافعي ورأيُ مالك ورأيُ أبي حنيفة كلُّه عندي رأيٌ، وهو عندي سواء؛ وإنما الحجَّة في الآثار.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى، أنشدنا أبو علي الحسن بن الخَضِر الأسيوطي بمكة، أنشدنا محمد بن جعفر، أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه:
ديــــنُ الــنـبـيِّ مــحـمـدٍ آثـــارُ ... نِـعْـمَ الـمـطيَّةُ لـلـفتى الأخـبارُ
لا تُـخْدعَنَّ عـن الـحديثِ وأهلِه ... فــالـرأيُ لـيـلٌ والـحـديثُ نـهـارُ
ولربَّما جهِل الفتى طُرُقَ الهدى ... والـشـمسُ طـالـعةٌ لـهـا أنــوارُ
ولبعض أهل العلم:
الـعـلـم: قـــال اللهُ قـــال رسـولُـه ... قــال الـصـحابةُ، لـيس خُـلْفٌ فـيهِ
مـا الـعلمُ نـصبَك لِلخِلاف سفاهةً ... بـيـنَ الـنـصوص وبـينَ رأيِ سـفيهِ
كـــلَّا ولا نـصـبَ الـخـلافِ جـهـالةً ... بــيـنَ الـرسـول وبـيـنَ رأيِ فـقـيهِ
كــــلَّا ولا ردَّ الــنـصـوصِ تــعـمُّـدًا ... حــذَرًا مــن الـتـجسيم والـتشبيهِ
حاشا النصوصَ من الذي رُمِيَتْ به ... مِـــن فــرقـة الـتـعطيل والـتـمويه
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 167 - 172)