الرأي المحمود، وهو أنواع:
النوع الأول: رأي أفقه الأمة، وأبر الأمة قلوبا، وأعمقهم علما، وأقلهم تكلفا، وأصحهم قصودا، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكا، وأصفاهم أذهانا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول. فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل؛ فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم.
قال الشافعي - رحمه الله - في "رسالته البغدادية" التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني، وهذا لفظه: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم. فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين. أدوا إلينا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاما وخاصا وعزما وإرشادا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا. وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا. ومن أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا. وهكذا نقول، ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله".
ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة: "وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض". قال: "والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه".
فترك صريح القياس لقول الصديق.
وقال في رواية الربيع عنه: "والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة.
وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة، وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة، ووجوب اتباعهم في فتاواهم، وأن لا يخرج من جملة أقوالهم، وأن الأئمة متفقون على ذلك.
والمقصود: أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم. وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم، فنزل القرآن بموافقته. ورأى أن تحجب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن بموافقته. ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزل القرآن بموافقته. وقال لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات، فنزل القرآن بموافقته. ولما توفي عبد الله بن أبي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول الله إنه منافق. فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84].
وقد قال سعد بن معاذ لما حكمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة: إني أرى أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم، وتغنم أموالهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".
ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرا في المفوضة قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه. أرى أن لها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة. فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في امرأة منا يقال لها: بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به. فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك.
وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحكمة، وعلما ومعرفة، وفهما عن الله ورسوله ونصيحة للأمة. وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم يتلقون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا لم يشبه إشكال، ولم يشنه اختلاف، ولم تدنسه معارضة. فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس.
النوع الثاني من الرأي المحمود: الرأي الذي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة منها، ويقررها، ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها؛ كما قال عبدان: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه: الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث.
وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده.
ومثال هذا: رأي الصحابة - رضي الله عنهم - في العول في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين: أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جر الولاء، ورأيهم في المحرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المضي فيه والقضاء والهدي من قابل، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينا، ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر: تصلي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر؛
ورأيهم في الكلالة، وغير ذلك.
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن الشعبي قال: سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. أراه ما خلا الوالد والولد.
فإن قيل: فكيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي"؟ وكيف يجامع هذا الحديث المشهور الذي تقدم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"؟
فالجواب: أن الرأي نوعان:
أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه، بل هو خرص وتخمين، فهذا الذي أعاذ الله الصديق والصحابة منه.
والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه. فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه.
ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد، فإن الله سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن. ففي أحد الموضعين ورث معها الأخ والأخت من الأم، ولا ريب أن هذه الكلالة ما عدا الوالد والولد. والموضع الثاني ورث معها ولد الأبوين والأب النصف والثلثين.
فاختلف الناس في هذه الكلالة، والصحيح فيها قول الصديق الذي لا قول سواه، وهو الموافق للغة العرب، كما قال:
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة … عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم
أي إنما ورثتموها عن الآباء والأجداد، لا عن حواشي النسب. وعلى هذا فلا يرث ولد الأب والأبوين لا مع أب ولا مع جد، كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه، وإنما ورثوا مع البنات؛ لأنهم عصبة، فلهم ما فضل عن الفروض.
النوع الثالث من الرأي المحمود: الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خلفهم عن سلفهم. فإن ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابا، كما تواطؤوا عليه من الرواية والرؤيا. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وقد تعددت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر"، فاعتبر - صلى الله عليه وسلم - تواطؤ رؤيا المؤمنين.
فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها ورأيها. ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد. وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم.
وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ليس عنده فيها نص عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جعلها شورى بينهم.
قال البخاري: ثنا سنيد ثنا يزيد عن العوام بن حوشب، عن المسيب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمى "صوافي الأمراء"، فرفع إليهم، فجمع له أهل العلم.
فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق.
وقال محمد بن سليمان الباغندي: ثنا عبد الرحمن بن يونس، ثنا عمر بن أيوب، أنا عيسى بن المسيب، عن عامر، عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين. فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح.
وقال الحميدي: ثنا سفيان، ثنا الشيباني، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله، فاقض به. فإن لم يكن فبما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون وأئمة العدل. فإن لم يكن فأنت بالخيار، فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك، والسلام.
النوع الرابع من الرأي المحمود: أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة - رضي الله عنهم -. فإن لم يجده اجتهد رأيه، ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله وأقضية أصحابه. فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة، واستعملوه، وأقر بعضهم بعضا عليه.
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 173 - 184 ط عطاءات العلم)