من شبهات اليهود حول البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم والجواب عنها

 

قال السائل: إن قلتم: إنَّ عبد الله بن سلَام وكَعْبَ الأَحبار ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم؛ فهلَّا أتى ابنُ سَلَام وأصحابُه الذين أسلَمُوا بالنُّسَخ التي لهم كي تكونَ شاهدةً علينا!

و‌‌الجواب من وجوه:

أحدها: أن شواهدَ النُّبُوة وآياتِها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، بلِ آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدًّا، ونَعْتُه وصفته في الكتب المتقدمة فرْدٌ من أفرادها.

وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والأخبار التي في كتبهم، وأكثرهم لا يعلمونها ولا (سمعوا بها)، بل أسلموا للشواهد التي عاينوها والآيات التي شاهدوها، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مُقَوِّيةً عاضدةً، من باب تقوية البيِّنة وقد تمَّ النِّصَابُ بدونها.

فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهمِ على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد، وإن كان ذلك قد بلغَ بَعْضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونَعْتَه ومَخْرَجَه، فلمَّا عاينوه وأبصروه عَرَفُوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه، فشَرِقَ أعداءُ الله بِرِيْقِهِم وغَصُّوا بمائهم، وقالوا: ليس هو الذي كنا نَعِدُهُمْ به.

فالعلم بنبوة محمدٍ والمسيح وموسى -صلوات الله وسلامه عليهم- لا يتوقف على (العلم بأنَّ مَن قبلهم أخبر بهم وبشَّر بنبوتهم، بل طرقُ العلم بها متعدِّدة) ، فإذا عُرِفتْ نبوةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بطريقٍ من الطرق: ثبتتْ نبوتُه ووجب اتِّباعه، وإن لم يكن مَنْ قَبْلَه بشَّرَ به.

فإذا عُلِمَتْ نبوَّتُه بما قام عليها من البراهين؛ فإما أن يكون تبشير مَنْ قبله به لازمًا لنبوته، وإمَّا أن لا يكونَ لازمًا.

فإن لم يكن لازمًا: لم يجب وقوعُه، ولا يتوقَّف تصديق النبيِّ عليه، بل يجب تصديقه بدونه.

وإن كان لازمًا: عُلِمَ قطعًا أنه قد وقع، وعَدَمُ نَقْلِه إلينا لا يدلُّ على عدم وقوعه؛ إذ لا يلزم من وجود الشيء نَقْلُه العام، ولا الخاصّ، وليس كل ما أخبر به موسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء المتقدِّمين وصل إلينا، وهذا مما يعلم بالاضطرار.

فلو قُدِّر أنَّ البشارة بنبوته - صلى الله عليه وسلم - ليست في الكتب الموجودة بأيديكم: لم يلزم أنْ لا يكون = (المسيحُ وغيره) بشَّروا به، بل قد يبشرون ولا يُنْقَلُ، ويمكن أن يكون في كتبٍ غيرِ هذه المشهورةِ المتداولة بينكم، فلم يزل عند كلِّ أمةٍ كتبٌ لا يطَّلَع عليها إلا بعض خاصتهم فضلًا عن جميع عامَّتهم، ويمكن أنه كان في بعضها فأُزِيْلَ منه وبُدِّل، ونُسِخَتِ النُّسَخ من هذه التي قد غُيِّرت واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها، وأُخْفِي أمْرُ تلك النسخ الأولى. وهذا كلُّه ممكن، لاسيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيِّها. وشريعته. هذا كلُّه على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلًا.

ونحن قد ذكرنا من البشارات به -التي في كتبهم- ما لا يمكن لمن له أدْنَى معرفةٍ منهم جَحْدُه والمكابرة فيه، وإن أمْكَنَهُم المغالطةُ بالتأويل عند رَعَاعِهِم وجُهَّالهم.

الوجه الثاني: أنَّ عبد الله بن سلام قد قابل اليهود وأوقفهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ ذِكْرَه ونعته وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله، وقد شهدوا بأنه أعلمُهم وابنُ أعلمِهِمْ وخيرُهم وابنُ خَيْرِهم. فلم يضرَّ قولُهم بعد ذلك إنّه شرُّهم وابنُ شرِّهم وجاهلُهم (وابنُ جاهلِهِم) ، كما إذا شهد على رجل شاهدٌ عند الحاكم، فسأله عنه فَعدَّلَه وقال: إنه مقبول الشهادة عَدْل رضى لا يشهد إلا بالحقِّ، وشهادته جائزة عليَّ. فلما أدَّى الشهادة قال: إنه كاذبٌ شاهدُ زورٍ. ومعلومٌ أنَّ هذا لا يقدح في شهادته.

وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى، وأذّن بها على رؤوس الملأ وصدَّقه مسلمو أهل الكتاب عليها، وأقرُّوه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علمًا بما في كتب الأنبياء، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويَزِنُونَه بما يعرفون صِحَّتَه فيعلمون صِدْقَه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو مِنْ أصْدَقِهم.

ونحن اليومَ ننوب عن عبد الله بن سلام، وقد أوجدناكم هذه البشاراتِ في كتبكم، فهي شاهدةٌ لنا عليكم، والكتبُ بأيديكم فَأْتُوا بها فَاتْلُوها إن كنتم صادقين. وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يوافقكم ويُقابلكم ويُحاقِقكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وعبادُه المؤمنون به عليكم من الكفرِ والتَّكْذيبِ، والجَحْد للحقِّ، ومعاداةِ الله ورسوله.

الوجه الثالث: أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكلِّ نسخةٍ متضمِّنةٍ لغاية البيان والصَّراحةِ: لكان في بَهْتِكم وعنادكم وكَذِبكم ما يدفع في وجوهها ويحرِّفُها أنواعَ التَّحريف ما وجد إليه سبيلًا، فإذَا جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به قلتم: ليس هو، ولم يأت بعد، وقلتم: نحن لا نفارق حكم التوراة، ولا نتبع نبيَّ الأميِّيْن.

وقد صرَّح أسلافكم الذين شاهدُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعايَنُوه أنه رسولٌ حقًّا، وأنه (المبشَّر به)، الموعودُ به على ألسنة الأنبياء المتقدمين.

وقال من قال منهم في وجهه: نشهد أنك نبيٌّ فقال: "ما يمنعك من اتباعي؟" قال: إنا نخاف أن (يقتلنا يهود). وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97]. وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر؛ بحيث إنَّ كل آيةٍ منها يصلح أن يؤمنَ على مِثْلها البَشَرُ، فما زادكم ذلك إلا نُفُورًا وتكذيبًا وإباءً لقَبول الحقِّ، فلو نزَّل الله عليكم ملائكته (وكلَّمكم الموتى، وشهد له بالنبوة كلُّ رطْبٍ ويابس) لغلبت عليكم الشِّقْوةُ وصرتم إلى ما سبق لكم في أمِّ الكتاب.

وقد رأى من كان أعقلَ منكم وأبْعَدَ من الحسد مِنْ آيات الأنبياء ما رأوا وما زادهم ذلك إلا تكذيبًا وعنادًا، فأسلافُكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك؛ أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول.

قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52، 53].

وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين صَفْحًا أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟

وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفًا يقطع المعذرة ويقيم الحجة. والله المستعان.


هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - ط عطاءات العلم (1/264 - 268)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله