وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:
الأصل الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤونته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه سبحانه على ذلك بقوله: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} [النساء: 104]. فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤونته ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة … لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى، الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه؟
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه.
قال الحسن رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة. ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وما عليه خطيئة».
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان، أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.
فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار.
وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} [الأنفال: 37].
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا، فيه حكم عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة. فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبتهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش والنصب وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} إلى قوله: {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 139 ـ 144].
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم، وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله.
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها، كالأرزاق والآجال.
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، أي تخليصهم من ذنوبهم، بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم.
فهذا بعض حكمه في نصر عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها.
قال تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7].
وقال: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} [الكهف: 7].
وقال: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك: 2].
وقال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء: 35].
وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31].
وقال تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 1 ـ 3].
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أولا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.
فأما من قال: آمنت فلا بد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين هل هو صادق في قوله: آمنت أو كاذب؟
فإن كان كاذبا رجع على عقبيه، وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله، وإن كان صادقا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه.
قال تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب: 22].
وأما من لم يؤمن فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إذا سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوباتها، التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة في هذه الدار وفى البرزخ وفى القيامة لكل أحد.
ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات والرضا والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة.
فلابد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعمة ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أنه يخلص من المحنة والألم البتة.
يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات، وتصورات، واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلا بد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفى الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم، ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المرتب على موافقتهم.
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن تكون له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم.
فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما، والتوفيق بيد الله.
الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام: فإنه إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس. ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم.
فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الموتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش! وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا} [الأحزاب: 16].
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع، من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [الأحزاب: 17].
فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءا غير الموت الذي فر منه، فإنه فر من الموت لما كان يسوؤه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوؤه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوؤه مما هو أعظم منه.
وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فهكذا الأمر في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا. وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره.
وكذلك من رفه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
قال أبو حازم: لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى.
واعتبر ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لآدم فرارا أن يخضع له ويذل، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا إلها من الأحجار.
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه في طاعته، لابد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته عقوبة له. كما قال بعض السلف: من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته.
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (2/ 933 - 943 ط عطاءات العلم)