افتقار الخلق لله عز وجل

المشهدَ الحادي عشر، وهو مشهد ‌العجز ‌والضّعف، وأنّه أعجز شيءٍ عن حفظ نفسه وأضعف، وأنّه لا قوّة له ولا قدرة ولا حول إلّا بربِّه، فيشهد قلبَه كريشةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ تُسيِّرها الرِّياح يمينًا وشمالًا، ويشهد نفسه كراكب سفينةٍ في البحر تهيج بها الرِّياح وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارةً وتخفضها أخرى.

تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليِّه، ملقًى ببابه، واضعًا خدّه على ثرى أعتابه، لا يملك لنفسه ضَرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلَّا الجهل والظُّلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاةٍ ملقاةٍ بين الذِّئاب والسِّباع لا يردُّهم عنها إلّا الرّاعي، فلو تخلّى عنها طرفة عينٍ لتقاسموها أعضاءً، هكذا حال العبد ملقًى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجنِّ، فإن حماه منهم وكفَّهم عنه لم يجدوا إليه سبيلًا، وإن تخلَّى عنه ووَكَله إلى نفسه طرفة عينٍ لم ينقسم عليهم، بل هو نصيب من ظفر به منهم.

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربَّه، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور: «من عرف نفسه عرف ربَّه»، وليس حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو أثرٌ إسرائيليٌّ بغير هذا اللّفظ أيضًا: «يا إنسان اعرِفْ نفسك تعرف ربّك»، وفيه ثلاث تأويلاتٍ:

أحدها: أنّ من عرف نفسه بالضّعف عرف ربَّه بالقوّة، ومن عرفها بالعجز عرف ربَّه بالقدرة، ومن عرفها بالذُّلِّ عرف ربَّه بالعزِّ، ومن عرفها بالجهل عرف ربّه بالعلم، فإنّ الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثّناء والمجد والغنى، والعبد فقيرٌ ناقصٌ محتاجٌ، وكلّما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذلِّه وضعفه ازدادت معرفته لربِّه بأوصاف كماله.

التأويل الثاني: أنّ من نظر إلى نفسه وما فيها من الصِّفات الممدوحة من القوَّة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أنَّ من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به، فمعطي الكمال أحقُّ بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلِّمًا سميعًا بصيرًا مريدًا عالمًا يفعل باختياره، ومَن خَلَقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ فهذا من أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلِّمًا أولى أن يكون هو متكلِّمًا، ومن جعله حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلًا قادرًا أولى أن يكون كذلك. فالتّأويل الأوّل من باب الضِّدِّ، وهذا من باب الأولويَّة.

والتأويل الثالث: أنّ هذا من باب النّفي، أي كما أنّك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها، ولا ماهيَّتها ولا كيفيَّتها، فكيف تعرف حقيقة ربّك وكيفيّة صفاته؟

والمقصود: أنَّ في هذا المشهد يعرِف العبد أنَّه عاجزٌ ضعيفٌ، فتزول عنه رعونات الدّعاوي، والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنّه ليس له من الأمر شيءٌ وليس بيده شيء، إن هو إلّا محض الفقر والعجز والضَّعف.

فصلٌ

فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر، وهو مشهد الذُّلِّ والانكسار والخضوع والافتقار للربِّ جل جلاله، فيشهد في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاته الباطنة والظّاهرة ضرورةً تامّةً وافتقارًا تامًّا إلى ربِّه ووليِّه، ومن بيده صلاحُه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنّما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرةٌ خاصّةٌ لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يُرغَب في مثله، وأنّه لا يصلح للانتفاع إلّا بجبرٍ جديدٍ من صانعه وقيِّمه، فحينئذٍ يستكثر في هذا المشهد ما مِن ربِّه إليه من الخير، ويرى أنَّه لا يستحقُّ منه قليلًا ولا كثيرًا، فأيُّ خيرٍ ناله من الله تعالى استكثره على نفسه، وعلم أنّ قدره دونه، وأنّ رحمة ربِّه اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقلَّ ما من نفسه من الطّاعات لربِّه، ورآها ولو ساوت طاعات الثّقلين من أقلِّ ما ينبغي لربِّه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإنّ الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كلَّه.

فما أقربَ الجبرَ من هذا القلب المكسور، وما أدنى النصرَ والرحمةَ والرِّزق منه، وما أنفعَ هذا المشهدَ له وأجداه عليه! وذرّةٌ من هذا ونَفَسٌ منه أحبُّ إلى الله من طاعاتٍ أمثال الجبال من المُدلِّين المُعجَبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحبُّ القلوب إلى الله تعالى قلبٌ قد تمكّنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذِّلَّة، فهو ناكس الرّأس بين يدي ربِّه تعالى، لا يرفع رأسه إليه حياءً وخجلًا من الله تعالى.

قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللِّقاء، فهذا سجود القلب.

فقلبٌ لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجدٍ السُّجودَ المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السّجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجهُ حينئذٍ للحيِّ القيُّوم، وخشع الصَّوت والجوارح كلُّها، وذلّ العبد وخضع واستكان، ووضع خدَّه على عتبة العبوديّة ناظرًا بقلبه إلى ربِّه ووليِّه نظر الذّليل إلى العزيز الرّحيم، فلا يُرى إلّا متملِّقًا لربِّه خاضعًا له، ذليلًا مستكينًا مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضّى ربّه كما يترضَّى المحبُّ الكاملُ المحبَّةِ محبوبَه المالكَ له الذي لا غنى له عنه ولا بدَّ له منه، فليس له همٌّ غير استرضائه واستعطافه، لأنّه لا حياة له ولا فلاح إلّا في قربه ورضاه عنه ومحبَّته له، يقول: كيف أُغضِب مَن حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمَّن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبِّه وذِكره؟

وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللِّباس، ويربِّيه أحسن التّربية، ويرقِّيه في درجات الكمال أتمَّ ترقيةٍ، وهو القيِّم بمصالحه كلِّها، فبعثه أبوه في حاجةٍ له، فخرج عليه في الطريق عدوٌّ فأسره وكَتَفه وشدَّه وثاقًا، ثمّ ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضدِّ ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكّر تربية والده وإحسانَه إليه الفينة بعد الفينة، فيَهيج من قلبه لواعج الحسرات كلَّما رأى حاله وتذكَّر ما كان فيه، فبينا هو في أسر عدوِّه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر، إذ حانت منه التفاتةٌ إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه وألقى نفسه عليه، يستغيث: يا أبتاه، يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تستبق على خدَّيه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوُّه في طلبه حتّى وقف على رأسه، وهو ملتزمٌ لوالده ممسكٌ له، فهل تقول: إنّ والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوِّه ويخلِّي بينه وبينه؟ فما الظّنُّ بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده والوالدة بولدها إذا فرَّ إليه، وهرب من عدوِّه إليه، وألقى نفسَه طريحًا ببابه، يمرِّغ خدّه في ثَرى أعتابه باكيًا بين يديه، يقول: يا ربِّ، يا ربِّ، ارحم من لا راحم له سواك، ولا وليَّ له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك؛ مسكينك وفقيرك، وسائلك ومؤمِّلك ومرجِّيك، لا ملجا ولا منجا له منك إلّا إليك، أنت ملاذه وبك معاذه.

يا من ألوذ به فيما أؤمِّله … ومن أعوذ به فيما أحاذره

لا يجبر النّاس عظمًا أنت كاسِرُه … ولا يَهيضُون عظمًا أنت جابره


مدارج السالكين (2/ 45 – 51 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله