الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه فوائد منتقاة من كتاب الروح لشيخ الإسلام الإمام ابن القيم رحمه الله، وهو كتاب كتاب نافع، اشتمل على جملة من المسائل والمباحث القيمة فيما يتعلق بالروح، وزيارة الأحياء للأموات، وسماع الموتى، وإخبار الأموات بأخبار أهلهم، تلاقي أرواح الموتى وتزاورهم الرؤيا، وروح النائم، الموت للروح أو للبدن، الصعق، سؤال القبر، عذاب القبر، النعيم والعذاب، القيامة الصغرى والقيامة الكبرى، مستقرّ الأرواح، وفي آخر الكتاب ذكر فصولاً نافعة في الفروق بين الخصال المحمودة والمذمومة.
وقد آثرت أن تكون هذه الفوائد مختصرة بقدرٍ تحصل معه الفائدة. وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها الجميع.
*نايف بن علي العوفي
عذاب القبر نوعان: دائم ومنقطع:
نوع دائم -سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين- فإذا قاموا من قبورهم قالوا: (يا وَيلَنا مَن بَعَثَنا مِن مَرقَدِنا) [يس: ٥٢]، ويدل على دوامه قوله تعالى: (النّارُ يُعرَضونَ عَلَيها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر: ٤٦].
النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم. (ص: ٨٩)
- فَلَو علم الْعاصِي أن لَذَّة التَّوْبَة وفرحتها يزِيد على لَذَّة الْمعْصِيَة وفرحتها أضعافا مضاعفة لبادر إِلَيْهَا أعظم من مبادرته إِلَى لَذَّة الْمعْصِيَة. وسرُّ هذا الفرح إنما يعلَمُه مَن عَلِمَ سرَّ فرح الربِّ تعالى بتوبة عبده أشدَّ فرح يقدَّر. (٢/ ٦٩٦)
يا عُمّار الدنيا لا تغفلوا عن القبر:
أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعِبر، رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار. (ص: ٧٩)
- الله سُبْحَانَهُ جعل أَمر الْآخِرَة وَمَا كَانَ مُتَّصِلا بهَا غيبا، وحجبها عَن إِدْرَاك الْمُكَلّفين فِي هَذِه الدَّار، وَذَلِكَ من كَمَال حكمته، وليتميز الْمُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من غَيرهم. (ص: ٦٤)
- أولياء الرحمن: المتلبسون بما يحبه وليّهم، الداعون إليه، المحاربون لمن خرج عنه. وأولياء الشيطان: المتلبسون بما يحبه وليّهم قولا وعملا، يدعون إليه، ويحاربون من نهاهم عنه. (٢/ ٧٣٨)
الفرقُ بين المهابةِ والكِبْر:
أن المهابة أثرٌ من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلالهِ، فإذا امتلأ القلبُ بذلك حلَّ فيه النورُ، ونزلت عليه السكينة، وأُلبِسَ رداءَ الهيبة، فاكتسى وجهُه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبةً ومهابةً، فحنَّت إليه الأفئدة، وقرَّت به العيون، وأنِست به القلوب. فكلامه نورٌ، ومدخله نورٌ، ومخرجَه نورٌ، وعمله نورٌ. إن سكَت علاه الوقار، وإن تكلَّم أخذ بالقلوب والأسماع.
وأما الكبر، فأثرٌ من آثار العُجب والبغي من قلبٍ قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحَّلت منه العبودية، ونزل عليه المقتُ؛ فنظرُه إلى الناس شَزْر، ومشيُه بينهم تبختُر، ومعاملتُه لهم معاملةُ الاستئثار، لا الإيثار ولا الإنصاف. ذاهبٌ بنفسه تِيهًا، لا يبدأ من لَقِيه بالسلام، وإن ردَّ عليه رأى أنه قد بالغَ في الإنعام عليه. لا ينطلق لهم وجهُه، ولا يسعهم خلقُه. لا يرى لأحدٍ عليه حقًّا، ويرى حقوقَه على الناس، ولا يرى فضلَهم عليه، ويرى فضلَه عليهم. لا يزداد من الله إلَّا بُعدًا، ولا من الناس إلا صَغارًا وبغضًا. (٢/ ٦٦٢-٦٦٣)
من الفروق بين الرفق والتواني:
وفي الصحيح أيضا: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".
وفيه أيضا: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير".
فالرفق شيء، والتواني والكسل شيء؛ فإن المتواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها، فيتقاعد عنها؛ والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاولة. (٢/ ٦٥٢)
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين على الله، وكان يَلبَسُ لأْمَتَه ودِرْعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثا؛ فكان متوكلا في السبب، لا على السبب. (٢/ ٧١١)
قال مسلمة بن عبد الملك: لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة، فأومأ إلينا أن اخرجوا. فخرجنا، فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص: ٨٣] ما أنتم بإنس ولا جان. ثم خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا. فدخلنا فإذا هو قد قبض. (١/ ١٨٩)
- وقد سلَّط الله سبحانه الشيطانَ على كلِّ ما ليس له، ولم يُرَدْ به وجهُه، ولا هو طاعةٌ له، وجَعَل ذلك إقطاعَه. (٢/ ٦٤٥)
- وما استعاذت الأنبياءُ والرسل وأمروا الأممَ بالاستعاذة من شرِّ النفس الأمَّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنها أصلُ كل شرٍّ وقاعدتُه ومنبعه، وهما متساعدان عليه متعاونان. (٢/ ٦٥٣)
- فإذا ترك العبد ولاية الحق ونصرته ترك الله ولايته ونصرته، ولم يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. وإذا ترك ولايته ونصرته تولته نفسه والشيطان فصارا وليين له، ووكل إلى نفسه فصار انتصاره لها بدلا من نصرة الله ورسوله، فاستبدل بولاية الله ولاية نفسه وشيطانه، وبنصرته نصرة نفسه وهواه، فلم يدع للرجاء موضعا. (٢/ ٦٩٢)
- فالله يبتلي عبدَه ليسمع تضرُّعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحبُّ التجلُّدَ عليه. وأحَبُّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبده بين يديه، وتذلُّلُه له، وإظهارُ ضعفِه وفاقتِه وعجزهِ وقلةِ صبره. فاحذر كلَّ الحذر من إظهار التجلُّدِ عليه، وعليك بالتضرُّعِ والتمسكن، وإبداء العجز والفاقة والذُّلِّ والضعف؛ فرحمتُه أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم. (٢/ ٧٢٣)
- وهل أوقع القدريَّة والمرجئةَ والخوارجَ والمعتزلةَ والجهميةَ والرافضةَ وسائرَ طوائف أهل البدع إلا سوءُ الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثرِ الناس هو مُوجَبَ هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابةُ ومن تَبِعهم عن الله ورسوله، فمهجورٌ لا يُلتفَت إليه، ولا يَرفع هؤلاء به رأسًا!. (١/ ١٨٤)
- ولم يكن في الصحابة من يعطِّل السبب اعتمادًا على التوكل، بل كانوا أقومَ الناس بالأمرين. ألا ترى أنهم بذلوا جهدَهَم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقةِ التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها، وأعدُّوا لأهلهم كفايتَهم من القوت اقتداءً بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه. (٢/ ٧١٣)
- الخاشعُ لله عبدٌ قد خمدَتْ نيرانُ شهوته، وسكَنَ دخانُها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نورُ العظمة. فماتتْ شهواتُ النفس، للخوف والوقار الذي حُشي به، وخمدت الجوارحُ، وتوقَّر القلب، واطمأنَّ إلى الله وذكره، بالسكينة التي تنزَّلتْ عليه من ربِّه، فصار مخبتًا له. (٢/ ٦٥٦)
- وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظُّنون السيئة بالناس حتى يطفحَ على لسانه وجوارحه، فهم معه أبدًا في الهمز واللَّمز والطعن والعيب والبُغض. يبغضهم ويبغضونه، ويَلعنهم ويلعنونه، ويَحْذَرهم ويَحذَرون منه. (٢/ ٦٦٨)
- القلب إذا قَرُبَ من الله انقطعت عنه معارضاتُ السوء المانعةُ من معرفة الحقِّ وإدراكِه، وكان تَلقِّيه من مشكاةٍ قريبةٍ من الله بحسب قُربه منه، وأضاء له النور بقدر قُربه منه، فرأى في ذلك النور ما لم يَره البعيد المحجوب. (٢/ ٦٦٩)
- وكان شاه الكرماني جيد الفراسة لا تخطئ فراسته. وكان يقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعود أكل الحلال= لم تخطئ فراسته. (٢/ ٦٧٣)
الفرق بين النصيحة والغيبة:
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين، فهي قربة إلى الله، من جملة الحسنات. وإذا وقعت على وجه ذم أخيك، وتمزيق عرضه، والتفكه بلحمه، والغض منه؛ لتضع منزلته من قلوب الناس= فهي الداء العضال، ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب. (٢/ ٦٧٦)
- فمدار الحق الذي اتفقت عليه الرسل على أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل: إثبات الصفات ونفي مشابهة المخلوقات. فمن شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد حقائق ما وصف الله به نفسه فقد كفر. ومن أثبت له حقائق الأسماء والصفات ونفى عنه مشابهة المخلوقات، فقد هُدي إلى صراط مستقيم. (٢/ ٧٣٠)
- وسُمّي "عذاب القبر ونعيمه" وأنه "روضة أو حفرة نار" باعتبار غالب الخلق، فالمصلوب والحريق والغريق وأكيل السباع والطيور، له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما. (١/ ٢١٣)
والكمال أن يكون القلب عارفا بتفاصيل الشر، سليما من إرادته. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لستُ بخَبٍّ ولا يخدعني الخَبُّ»، وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدع. (٢/ ٦٨٣)