الرجاء والأماني

ومما ينبغي أن يعلم أنّ ‌من ‌رجا ‌شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني! والرجاء شيء، والأماني شيء آخر. ف‌‌كلُّ راجٍ خائفٌ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرَعَ السيرَ مخافةَ الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "مَن خاف أدلَجَ، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنّة".
وهو سبحانه كما جعل الرَّجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال. فعُلِمَ أنّ الرَّجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون، ويخافون أن لا يُتقبَل منهم. أولئك يسارعون في الخيرات".
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضًا.
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف. ونحن جمعنا بين التقصير -بل التفريط- والأمن! فهذا الصدّيق يقول: "وددتُ أنّي شعرة في جنب عبد مؤمن". ذكره أحمد عنه.
وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد!
وكان يبكي كثيرًا، ويقول: ابكوا، فإنْ لم تبكُوا فتباكَوا.
وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل.

وأُتي بطائر، فقلّبه، ثم قال: ما صِيدَ مِن صَيدٍ ولا قُطعت من شجرة إلا بما ضيّعَتْ من التسبيح.
ولما احتضر قال لعائشة: يا بنية، إنّي أصبتُ من مال المسلمين هذه العباءة، وهذا الحِلاب، وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب.
وقال: والله لودِدتُ أنّي كنتُ هذه الشجرة، تؤكل وتُعضد! وقال قتادة: بلغني أنّ أبا بكر قال: ودِدتُ أنّي خَضِرةٌ تأكلني الدوابّ.
وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور حتّى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7]، فبكى، واشتدّ بكاؤه، حتى مرض وعادُوه.
وقال لابنه وهو في الموت: ويحك ضَعْ خدّي على الأرض عساه أن يرحمني. ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر لي، ثلاثًا، ثم قضَى.
وكان يمرّ بالآية في وِرده بالليل، فتخنقه، فيبقى في البيت أيامًا يُعاد، يحسبونه مريضًا.
وكان في وجهه رضي الله عنه خطّان أسودان من البكاء. 
وقال له ابن عباس: مصّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل وفعل، فقال: وددتُ أنّي أنجو، لا أجرَ ولا وِزرَ.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبلّ لحيتَه.
وقال: لو أنني بين الجنّة والنار، لا أدري إلى أيّهما يؤمر بي، لاخترتُ أن أكون رمادًا، قبل أن أعلم إلى أيّهما أصير.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فيُنْسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق. ألا وإن الدنيا قد ولّت مدبرةً، والآخرةُ مقبلةٌ، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حسابَ، وغدًا حساب ولا عملَ.
وهذا أبو الدرداء كان يقول: إنّ أشدّ ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء قد علمتَ، فكيف عملتَ فيما علمتَ؟
وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظِلّون فيه، ولخرجتم إلى الصعيد، تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم. ولَوددتُ أنّي شجرة تُعضَد ثم تؤكل.
وكان عبد الله بن عباس أسفلَ عينَيه مثلُ الشَراك البالي من الدموع.
وكان أبو ذرّ يقول: ياليتني كنتُ شجرةً تعضَد، ووددتُ أنّي لم أُخْلَق.
وعُرضت عليه النفقة فقال: عندنا عَنْزٌ نحلبُها، وأحمِرَة ننقل عليها، ومحرَّرٌ يخدمنا، وفضل عباءة. وإنّي أخاف الحسابَ فيها.
وقرأ تميم الداري ليلةَ سورة الجاثية، فلمّا أتى على هذه الآية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] جعل يردّدها ويبكي حتى أصبح.
وقال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش، فذبحني أهلي، وأكلوا لحمي، وحَسَوا مرَقي.
وهذا باب يطول تتبعه.
قال البخاري في صحيحه: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التَّيمي: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذَّبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم كلُهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنَه إلا منافق".
وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشُدك الله، هل سمّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني في المنافقين فيقول: لا، ولا أزكّي بعدك أحدًا.
فسمعتُ شيخنا رحمه الله يقول: ليس مراده أنّي لا أبرّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليّ هذا الباب، فكلّ من سألني: هل سمّاني لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فأزكيه.
قلت: وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب: "سبقك بها عكاشة". ولم يُرِد أنّ عكاشة وحده أحقُّ بذلك ممن عداه من الصحابة. ولكن لو دعا له لقام آخر وآخر، وانفتح الباب، وربّما قام من لم يستحق أن يكون منهم. فكان الإمساك أولى، والله أعلم.


الدواء والدواء (ص: 87 - 98)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله