ومن المُحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثةُ الصابئين وأفراخ اليونان -الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب، وأشهدوا اللهَ وملائكته عليهم به، وشهد به عليهم الأشهادُ من أتباع الرُّسل- أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممَّن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان، وفضَّلهم على من سبقهم ومَن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، ما خلا النبيين والمرسلين. وهل يقول هذا إلَّا غبيٌّ جاهلٌ لم يَقدِر قدْر السلف، ولا عرف الله ورسوله وما جاء به!
قال شيخنا: «وإنما أُتي هؤلاء المبتدعةُ ـ الذين فضَّلوا طريقة الخلف على طريقة السَّلف ـ من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقهٍ ولا فهمٍ لمراد الله تعالى ورسوله منها، واعتقدوا أنهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 77]، وأن طريقة المتأخرين هي استخراجُ معاني النصوص وصرفُها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات.
فهذا الظن الفاسد أوجبَ تلك المقالةَ التي مضمونها نبذُ الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسببُ ذلك اعتقادُهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص. فلمَّا اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصِّفات في نفس الأمر، ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنًى، بقوا متردِّدين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى ـ وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم ـ وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وُضِعَ له إلى ما لم يُوضَع له ولا دَلَّ عليه بأنواع من المجازات والتكلُّفات، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبهُ منها بالبيان والهدى، كما سيأتي بيانه مفصَّلًا إن شاء الله.
وصار هذا الباطل مركَّبًا من فساد العقل والجهل بالسمع، فلا سمعَ ولا عقل، فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهاتٍ فاسدةٍ ظنوها معقولاتٍ صحيحةً، فحرَّفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها، فلمَّا ابتُني أمرُهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهالَ السابقين ـ الذين هم أعلمُ الأُمة بالله وصفاته ـ واعتقاد أنهم كانوا أُميين بمنزلة الصالحين البُلْه، الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصَبَ السبقِ، واستولوا على الغاية، وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأوَّلين.
فكيف يتوهَّم مَن له أدنى مُسكةٍ من عقلٍ وإيمانٍ أن هؤلاء المتحيِّرين الذين كَثُرَ في باب العلم بالله اضطرابُهم، وغلظ عن معرفة الله حجابُهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مَرَامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا … وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ … عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
ويقول الآخر:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ … وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا … وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
ولَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا … سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وقال الآخر: «لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ، وتركتُ أهلَ الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهَوْني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي».
وقال آخر: «أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام».
وقال آخر منهم عند موته: «اشهدوا عليَّ أني أموتُ وما عرفت شيئًا إلَّا أن الممكن يفتقر إلى واجبٍ. ثم قال: والافتقار أمرٌ عدميٌّ، فلم أعرف شيئًا».
وقال آخر، وقد نزلت به نازلةٌ من سلطانه، فاستغاث بربِّ الفلاسفة فلم يُغَثْ، قال: «ثم استغثتُ بربِّ الجهمية فلم يُغِثْني، ثم استغثتُ بربِّ القدَرية فلم يغثني، ثم استغثتُ بربِّ المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت بربِّ العامة فأغاثني».
قال شيخنا: «وكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!».
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 14 - 18)