(عبودية المُراغَمة) عبودية أصحاب البصائر التامّة

عبوديّة المراغمة، ‌ولا ‌ينتبه ‌لها ‌إلّا ‌أولو ‌البصائر ‌التّامَّة. ولا شيءَ أحبُّ إلى الله من مراغمةِ وليِّه لعدوِّه وإغاظتِه له.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه العبوديّة في مواضع من كتابه. أحدها: قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]. سمَّى المهاجَرَ الذي يهاجَر فيه إلى عبادة الله "مراغَمًا" لأنه يُراغَم به عدوُّ الله وعدوُّه، واللهُ يحبُّ من وليِّه مراغمةَ عدوِّه وإغاظته، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].

وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. فمغايظةُ الكفّار غايةٌ محبوبةٌ للرّبِّ مطلوبةٌ له، فموافقته فيها من كمال العبوديّة.

وشرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمصلِّي إذا سها في صلاته سجدتين، وقال: "إن كانت صلاتُه تامّةً كانتا ترغيمًا للشّيطان". وسمَّاهما "المُرْغِمَتين".

فمن تعبَّد لله بمراغمة عدوِّه، فقد أخذ من الصِّدِّيقيّة بسهمٍ وافرٍ. وعلى قدر محبّة العبد لربِّه وموالاته ومعاداةِ عدوِّه يكون نصيبُه من هذه المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حُمِد التَّبختُرُ بين الصَّفَّين، والخيلاءُ والتَّبخترُ عند صدقة السِّرِّ حيث لا يراه إلّا الله تعالى؛ لما في ذلك من إرغام العدوِّ ببذل محبوبه من نفسه وماله لله. وهذا بابٌ من العبوديّة، ولا يعرفُه ويسلكُه إلّا القليلُ من النّاس. ومن ذاق لذَّتَه وطعمَه بكى على أيّامه الأُوَل. وبالله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.


مدارج السالكين (1/ 353 – 355 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله