مناظرة بين سُنّي وجهمي

الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه.

نكتفي من هذا الفصل بذكر مناظرة جرت بين جهمي مُعَطِّلٍ وسُنِّي مُثْبِت، حدثني بمضمونها شيخنا عبد الله بن تيمية رحمه الله أنه جمعه وبعض الجهميّة مجلس فقال الشيخ:

قد تطابقت نصوص الكتاب والسنة والآثار على إثبات الصفات لله، وتنوعت دلالتها عليها أنواعا توجب العلم الضروري بثبوتها وإرادة المتكلم اعتقاد ما دلّت عليه، والقرآن مملوء من ذكر الصفات، والسنة ناطقة بمثل ما نطق به القرآن مقرِّرَةٌ له، مصدقة له ،مشتملة على زيادة في الإثبات؛ فتارة بذكر الاسم المشتمل على الصفة كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم، وتارة بذكر المصدر وهو الوصف الذي اشتقت منه تلك الصفة كقوله: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] وقوله: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف: 144] وقوله: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82] وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"، وقوله في دعاء الاستخارة: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك"، وقوله: "أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق" وقول عائشة: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات" ونحوه، وتارة يكون بذكر حكم تلك الصفة كقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) [المجادلة: 1] و(إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46] وقوله: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات: 23] وقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 187] ونظائر ذلك.

ويُصرّح في الفوقية بلفظها الخاص، وبلفظ العلو والاستواء، وأنه في السماء، وأنه ذو المعارج، وأنه رفيع الدرجات، وأنه تعرج إليه الملائكة وتنزل من عنده، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عَيَانَاً من فوقهم إلى أضعاف أضعاف ذلك مما لو جمعت النصوص والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها.

ومن أبين المحال وأوضح الضلال حمل ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره ودعوى المجاز فيه والاستعارة وأن الحق في أقوال النفاة المعطّلين وأن تأويلاتهم هي المُرادة من هذه النصوص، إذ يلزم من ذلك أحد محاذير ثلاثة لا بد منها أو من بعضها، وهي: القدح في علم المتكلم بها، أو في بيانه، أو في نصحه.

وتقرير ذلك: أن يقال إما أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين أو لا يعلم ذلك.

فإن لم يعلم ذلك والحق فيها: كان ذلك قدحا في علمه، وإن كان عالما أن الحق فيها فلا يخلو: إما أن يكون قادرا على التعبير بعباراتهم التي هي تنزيهٌ لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم وأنه لا يعرف الله من لم ينزهه بها أو لا يكون قادرا على تلك العبارات؛ فإن لم يكن قادرا على التعبير بذلك لزم القدح في فصاحته وكان ورثة الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصح منه وأحسن بيانا وتعبيرا عن الحق، وهذا مما يَعلم بطلانه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، موافقوه ومخالفوه؛ فإن مخالفيه لم يَشُكّوا في أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ويُخَلِّصه من اللبس والإشكال.

وإن كان قادرا على ذلك ولم يتكلم به وتكلم دائما بخلافه وما يناقضه: كان ذلك قدحا في نُصحه، وقد وصف الله رسله بكمال النصح والبيان فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم: 4]، وأخبر عن رسله بأنهم أنصح الناس لأُممهم؛ فمع النصح والبيان والمعرفة التامة كيف يكون مذهب النُّفاة المعطّلة أصحاب التحريف هو الصواب، وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة باطلا. هذا مضمون المناظرة.

فقال له الجهمي: انزل بنا إلى الوطاة.

قلت له: ما أراد بذلك.

قال: أراد أنك خاطبتني من فوق، وتجوهت علي بجاه لا يمكنني مقاومته، فانزل بنا إلى مباحث الفضلاء وقواعد النُّظّار أو نحو هذا من الكلام.

فليتدبر الناصح لنفسه الموقن بأن الله لا بد سائله عما أجاب به رسوله في هذا المقام، وليتحيز بعد إلى أين شاء؛ فلم يكن الله ليجمع بين النُّفاة المعطّلين المحرفين وبين أنصاره وأنصار رسوله وكتابه إلا جمع امتحان وابتلاء كما جمع بين الرسل وأعدائهم في هذه الدار.


الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 320)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله