الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين، وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة

فإن قيل: فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة كما قال تعالى: ﴿وَمَآ ‌أَكۡثَرُ ‌ٱلنَّاسِ ‌وَلَوۡ ‌حَرَصۡتَ ‌بِمُؤۡمِنِينَ [يوسف: 103] وقال: ﴿وَقَلِيلٞ ‌مِّنۡ ‌عِبَادِيَ ‌ٱلشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13] وقال: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ‌وَقَلِيلٞ ‌مَّا هُمۡ[ص: 24] وقال: ﴿وَإِن ‌تُطِعۡ ‌أَكۡثَرَ ‌مَن ‌فِي ‌ٱلۡأَرۡضِ ‌يُضِلُّوكَ ‌عَن ‌سَبِيلِ ‌ٱللَّهِ[الأنعام: 116]، وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد إلى الجنة، وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة، وهلّا كان الأمر بالضد من ذلك.

قيل: هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وسبقت الغضب وغلبته، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية، ثم نقول المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني كما في المسند والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك" فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم، وإراداتهم، وأعمالهم، ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالا ولا يغفل عنه ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته، هذا على ضعفه وحاجته، وزيّن له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها، وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم؛ بل أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تَقْوَ عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد، وقالوا كيف يُباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وُعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم، ولسان حال أكثرهم يقول: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به، فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوءها حقيقة الآخرة ودوامها وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما، فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها لا نألف غيرها، وحكمت العادات وقهر السلطان الهوى وساعده داعي النفوس، وتقاضاه موجب الطباع، وغلب الحس على العقل، وكانت الدولة له، والناس على دين الملك، ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحُجب ويقطع هذه العلائق ويخالف العوائد ولا يستجيب لدواعي الطبع ويعصي سلطان الهوى لا يكون إلا الأقل، ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية لخفة النار وطيشها وكثرة نقلتها وسرعة حركتها وعدم ثباتها، والماء المادة الملكية فتر به من ذلك؛ فلذلك كان المخلوق خيرا كله؛ فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث، واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة، ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية وظهور آثار الأسماء والصفات؛ فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية، وفات الكمال المترتب على ذلك، فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر، ويمحصه ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين، ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ، وهذا غاية الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر؛ فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها، والناس زرع الأرض، والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء، وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.


شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 265 - 266)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله