أيّهما أفضل: مَن له داعية وشهوة، وهو يحبسها للَّه أو من لا داعية له تنازعه؟

 

وقد اختلف أرباب السلوك وأهل الطريق هنا في هذه المسألة، وهي أيّهما أفضل: مَن له داعية وشهوة، وهو يحبسها للَّه، ولا يطيعها حبًّا له وحياءً منه وخوفًا. أو من لا داعية له تنازعه، بل نفسه خالية من تلك الدواعي والشهوة، قد اطمأنَّت إلى ربِّها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبّه؟

فرجَّحت طائفة الأولَ، وقالت: هذا يدلُّ على قوَّة تعلّقه وشدَّة محبّته، فهو يُعاصي دواعي الطبع والشهوة، ويقهرها سلطانُ محبّته وإرادته وخوفه من اللَّه. وهذا يدلّ على تمكّنه من نفسه، وتمكّن حاله مع اللَّه، وغلبة داعي الحق عنده على داعي الطبع والنفس.

قالوا: وأيضًا فله مزيد في حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعي الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوّه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوّه الظاهر.

قالوا: والذوق والوجد يشهد بمزيده من الحبّ والأنس والسرور والفرح بربِّه عند إيثاره علي دواعي الهوى والنفس، والمطمئنُّ الذي ليس فيه هذا الداعي ليس له مزيد من هذه الجهة. وإن كان مزيده من جهة أخرى، فهي مشتركة بينهما، ويختصّ هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.

قالوا: وأيضًا فهذا مبتلًى بهذه الدواعي والإرادات، وذلك معافًى منها. وقد جرت سنَّة اللَّهِ في المؤمنين من عباده أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانُه زيد في بلائه، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإنْ كان في دينه صلابة شُدِّدَ عليه البلاء، وإنْ كان في دينه رقَّة خفِّف عنه البلاءُ" والمراد بالدين هنا: الإيمان الذي يثبت عند نوازل البلاءِ، فإنَّ المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاءِ.

قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعي النفس والطبع من أشدّ البلاءِ، فإنَّه لا يصبر عليه إلا الصدِّيقون. وأمَّا البلاءُ الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقّف على الإيمان، بل يصبر عليه البرّ والفاجر، ولا سيّما إذا علم أنَّه لا معوّل له إلا الصبر، فإنَّه إن لم يصبر اختيارًا صبر اضطرارًا.

ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصدّيق -صلى اللَّه عليه وسلم- لما فعل به إخوتُه من الأذى، والإلقاءِ في الجُبِّ، وبيعه بيع العبيد، والتفريق بينه وبين أبيه؛ وابتلائه بمراودة المرأة له وهو شابّ عزب غريب بمنزلة العبد لها، وهي الداعية له إلى ذلك = فرقٌ عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتبَ البلاءِ. فإنَّ الشباب داعٍ إلى الشهوة، والشاب قد يستحيي بين أهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزَبًا كان أشدَّ لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشدّ، وإذا كانت جميلةً كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضًا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي الحاكمة عليه الآمرة النَّاهية له كان أبلغ في الداعي، فإذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبّة للرجل قد امتلأ قلبها من حبّه = فهذا الابتلاءُ الذي لا يصبر معه إلا مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.

ولا ريب أنَّ هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأوَّل، بل هو من جنس ابتلاءِ الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- بذبح ولده، إذ كلاهما ابتلاءٌ بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم الطبع جملة. وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون صلوات اللَّه وسلامه عليه، والتي أصابت أيوب صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.

قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه هي النكتة التي من أجلها كان صالحو البشر أفضلَ من الملائكة؛ لأنَّ الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس والشهوات البشرية، فهي صادرةٌ عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، وهي كالنفَس للحيّ. وأمَّا عبادات البشر، فمع منازعات النفوس، وقمع الشهوات، ومخالفة دواعي الطبع؛ فكانت أكمل. ولهذا كان أكثر النَّاس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعي والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خُلِقَت له وأعانه اللَّه على دفعها وقهرها وعصيانها كان أكمل وأفضل.

قالوا: وأيضًا فإنَّ حقيقة المحبّة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه. قالوا: وكيف يصحّ الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب؟

قالوا: وليس العجب من قلب خالٍ عن الشهواتِ والإرادات، قد ماتت دواعي طبعه وشهوته، إذا عكفَ على محبوبه ومعبوده، واطمأنَّ إليه، واجتمعت همّتُه عليه. وإنَّما العجب من قلبٍ قد ابتُليَ بما ابتُليَ به من الهوى والشهوة ودواعي الطبيعة، مع قوَّة سلطانها وغلبتها، وضعفه، وكثرة الجيوش التي تُغير على قلبه كلَّ وقتٍ، إذا آثر ربَّه ومرضاتَه على هواه وشهوته ودواعي طبعه. فهو هاربٌ إلى ربِّه من بين تلك الجيوش، وعاكفٌ عليه في تلك الزعازع والأهوية التي تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة، يتحمَّل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمَّله الجبال الرَّاسيات!

قالوا: وأيضًا فنهيُ النفس عن الهوى عبوديّة خاصَّة لها تأثير خاصّ، وإنَّما يحصل إذا كان ثَمَّ ما ينهى عنه النفس.

قالوا: وأيضًا فالهوى عدوُّ الإنسان، فإذا قهر عدوَّه وصارت تحت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممَّن لا عدوّ له يقهره.

قالوا: ولهذا كان حالُ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قهره قرينَه حتَّى انقادَ وأسلم له فلم يكن يأمره إلا بخيرٍ أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفرّ منه، وكان إذا سلكَ فجًّا سلك فجًّا غير فجِّه.

وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفرّ منه، ومع هذا قد تفلَّت على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعرَّض له وهو في الصلاة، وأراد أن يقطع عليه صلاته، ومعلومٌ أنَّ حال الرسول أكمل وأقوى؟ والجوابُ ما ذكرناه أنَّ شيطان عمر كان يفرّ منه، فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه. وأمَّا الشيطان الذي تعرَّض للنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أخذه وأسره وجعله في قبضته كالأسير. وأين مَن يهرب منه عدوُّه فلا يظفر به إلى مَن يظفر بعدوّه، فيجعله في أسره وتحت قبضته؟

فهذا ونحوه ممَّا احتجَّ به أرباب هذا القول.

وأحتجَّ أرباب القول الثاني -وهم الذين رجَّحوا من لا منازعة في طباعه، ولا هوى له يغالبه- بأن قالوا: كيف تستوي النفسُ المطمئنّة إلى ربِّها، العاكفةُ على حُبِّهِ، التي لا منازعةَ فيها أصلًا ولا داعيةَ تدعوها إلى الإعراض عنه؛ والنفسُ المشغولةُ بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟

قالوا: وأيضًا ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحبُ النفس المطمئنّة قد قطع مراحل من سيره، وفاز بقربٍ فات صاحبَ المحاربة والمنازعة.

قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين في طريق، فطلع على أحدهما قاطعٌ اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكّن من سيره؛ والآخر سائرٌ لم يعرض له قاطع، بل هو على جادّة سيره، فإنَّ هذا يقطع من المسافة أكثرَ ممَّا يقطع الأوَّل، ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه.

قالوا: وأيضًا فإنَّ للقلب قوَّةً يسير بها، فإذا صرفَ تلك القوَّة في دفعِ العوارضِ والدواعي القاطعَة له عن السير اشتغلَ قلبُه بدفعها عن السيرِ في زمن المدافعة.

قالوا: ولأنَّ المقصودَ بالقصد الأوَّل إنَّما هو السيرُ إلى اللَّهِ، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره، والاشتغال بالمقصود لنفسه أولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة.

قالوا: وأيضًا فالعوارضُ المانعة للقلب من سيره هي من باب المرض، واجتماعُ القلب على اللَّه وطمأنينتُه به وسكونُه إليه بلا منازعٍ ولا جاذب ولا معارض هو صحّتُه وحياتُه ونعيمُه. فكيف يكون القلبُ الذي يعرض له مرض فهو مشغول بدوائه أفضلَ من القلب الذي لا داء به ولا علَّة؟

قالوا: وأيضًا فهذه الدواعي والميول والإرادات التي في القلب تقتضي جذبَه وتعويقه عن وجهة سيره، وما فيه من داعي المحبَّه والإيمان يقتضي جذبَه عن طريقها، فتتعارض الجواذب، فإنْ لم تُوقِفْه عوَّقَتْه ولا بُدَّ. فأين السيرُ بلا معوّق من السيرِ مع المعوِّق؟

قالوا: وأيضًا فالذي يُسيِّرُ العبدَ بإذن ربه إنَّما هو همَّته، والهمَّة إذا علت وارتفعت لم تلحقها القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع في الجوّ فات الرماةَ، ولم تلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام. وإنَّما تدرك هذه الأشياء الطائرَ إذا لم يكن عاليًا، فكذلك الهمَّة العالية قد فاتت الجوارحَ والكواسرَ، وإنَّما تلحق الآفاتُ والدواعي والإرادات الهمَّةَ النَّازلة، فأمَّا إذا علت فلا تلحقها الآفات.

قالوا: وأيضًا فالحسُّ والوجود شاهد بأنَّ قلبَ المحب متى خلا من غير المحبوب، واجتمعت شؤونه كلّها على محبوبه، ولم يبقَ فيه التفات إلى غيره، كان أكمل محبَّةً من القلب الملتفت إلى الرقباءِ، المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتواري عنهم. قالوا: فكم بين محبٍّ يجتاز على الرقَباءِ فيُطرِقون من هيبته وخشيته ولا يرفع أحد منهم رأسه إليه، وبين محبٍّ إذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه كالزنابير أو كالكلاب، فاشتغل بدفعهم وحرابهم، أو جدَّ في الهرب منهم؟ فكيف يسوَّى هذا بهذا، أم كيف يفضَّل عليه مع هذا التباين؟

قالوا: وأيضًا فالمحبّة الخالصة الصَّادقة حقيقتها أنَّها نار تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإذا احترق ما سوى مراده عُدِمَ وذهب أثرُه. فإذَا بقيَ في القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبّة تامَّةً ولا صادقةً، بل هي محبة مشوبة بغيرها. فالمحبّ الصادق ليس في قلبه سوى مراد محبوبه حتَّى ينازعه ويدافعه، والآخر في قلبه بقيَّة لغير المحبوب فهو جاهدٌ على إخراجها وإعدامها.

قالوا: وأيضًا فالواردات الإلهيّة تَرِدُ على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلبَ فارغًا خاليًا من العوارض والمنازعات ودواعي الطبع والهوى ملأَتْه على قدر فراغه. وإذا امتلأ منها لم يبقَ لأضدادها وأعدائها فيه مسلك، وإذا صادفت فيه موضعًا مشغولًا بغيرٍ من الأغيار لم تساكن ذلك الموضع، فيدخلُ الضدُّ والعدوُّ من تلك الثُّلْمة، كما قال القائل:

لا كان مَن لِسواكَ فيه بقيَّةٌ … يجدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ

وقال:

ومهما بقي لِلصَّحْو فيه بقيَّةٌ … يجد نحوَك اللاحي سبيلًا إلى العَذْلِ

قالوا: وأيضًا فدواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إمَّا جهل وإمَّا ضعف. فإنَّها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أو يكون عالمًا بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية. وما كان سببه جهلًا أو عجزًا لا يكون كمالًا ولا مستلزمًا لكمالٍ. وأمَّا القلب الخالي منها ومن الاشتغال بدفعها، فقلب شريف قويّ علويّ رفيع.

قالوا: وأيضًا فهذه الإرادات والدواعي لا تُسيِّر العبد، بل إمَّا أن تنكّسه إن أجابها، وإمَّا أن تُعوّقه وتُوقفه إن اشتغل بمدافعتها. وأمَّا إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنَّة بربّها، فكلُّ إرادة منها تسير به مراحلَ على مَهَلِه، فهو يسيرُ رُويدًا، وقد سبقَ السُّعَاةَ، كما قيل:

مَنْ لي بمثل سَيرِكَ المُدَلَّلِ … تمشي رُويدًا وتجي في الأوَّلِ

قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه الدواعي والإرادات إنّما تُحمَد عاقبتُها إذا ردّت صاحبَها إلى حال السليم منها، فيكون كماله في تشبّهه به وسيره معه؛ فكيف يكون أكمل ممّن كمالُه إنّما هو في تشبّهه به؟

قالوا: وأيضًا فالنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنّة. والنفس الأمّارة هي المطيعة لدواعي طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمّارة هي تلك الدواعي والإرادات، فتستحكم، فتصير عزَمات، ثمَّ تُوجِب الأفعال؛ فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعي. وأمَّا النفس المطمئنّة فهي التي عَدِمتْ هذه المبادئ فعدِمت غاياتها. فكيف تكون مبادئ النفس الأمَّارة ممَّا يوجب لها مزيَّةً على النَّفسِ المطمئنّة؟

فهذا ونحوه ممَّا احتجَّت به هذه الطائفة أيضًا لقولها.

والحقّ أنَّ كلا الطائفتين على صوابٍ من القول، لكن كلّ فرقة لحظت غيرَ ملحظِ الفرقة الأخرى، فكأنَّهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ. بل الفرقة الأولى نظرت إلى نهاية خير المجاهدة لنفسه وإراداته وما ترتَّب له عليها من الأحوالِ والمقاماتِ، فأوجب لها شهودُ نهايته رجحانَه، فحكمت بترجيحه، وأسجلَت بتفضيله. والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته في شأنه ذلك ونهاية النفس المطمئنّة، فأوجبَ لها شهودُ الأمرين الحكمَ بترجيحِ القلب الخالي من تلك الدواعي ومجاهدتها. وكلّ واحدة من الطائفتين فقد أدْلَتْ بحججٍ لا تمانَع، وأَتَتْ ببيناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 494 - 505)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله