الجزية ‌تُؤخذ ‌من ‌كل ‌كافرٍ وليست خاصة بأهل الكتاب

ومنها: أن ‌الجزية ‌تُؤخذ ‌من ‌كل ‌كافرٍ، هذا ظاهر هذا الحديث، ولم يستثنِ منه كافرًا من كافرٍ.

ولا يقال: هذا مخصوصٌ بأهل الكتاب خاصَّةً، فإن اللفظ يأبى اختصاصَه بأهل الكتاب. وأيضًا فسرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجيوشه أكثرَ ما كانت تقاتل عَبَدةَ الأوثان من العرب.

ولا يقال: إن القرآن يدلُّ على اختصاصها بأهل الكتاب، فإن الله سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال المشركين حتى يُعطوا الجزية، فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المجوس وهم عُبَّاد النار، لا فرقَ بينهم وبين عبدة الأوثان. ولا يصح أنهم أهل الكتاب ولا كان لهم كتابٌ، ولو كانوا أهلَ كتابٍ عند الصحابة - رضي الله عنهم - لم يتوقَّفْ عمر - رضي الله عنه - في أمرهم، ولم يقلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب"، بل هذا يدلُّ على أنهم ليسوا أهلَ كتابٍ. وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع، وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام، ولم يذكر للمجوس ــ مع أنها أمةٌ عظيمةٌ من أعظم الأمم شوكةً وعددًا وبأسًا ــ كتابًا ولا نبيًّا، ولا أشار إلى ذلك، بل القرآن يدلُّ على خلافه كما تقدَّم، فإذا أُخِذت من عُبَّاد النيران فأيُّ فرقٍ بينهم وبين عُبَّاد الأوثان؟

فإن قيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذها من أحدٍ من عُبَّاد الأوثان مع كثرة قتاله لهم.

قيل: أجلْ، وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عامَ تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبقَ بها أحدٌ من عبَّاد الأوثان فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس، ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة، ولا من يهود خيبر، لأنهم صالحهم قبل نزول آية الجزية.

وهذه الشبهة هي التي أوقعتْ عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود، ثم أكَّدوا أمرها بأن زوَّروا كتابًا فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط عنهم الكُلَفَ والسُّخَر والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما. وهذا الكتاب كذِبٌ مختلقٌ بإجماع أهل العلم من عشرة أوجهٍ:

منها: أن أحدًا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر أن ذلك وقع البتةَ، مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثيرٍ.

الثاني: أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر، فحينَ صالح أهل خيبر لم تكن الجزية نزلت حتى يضَعَها عنهم.

الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعدُ، فإنه إنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر.

الرابع: أن سعد بن معاذٍ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر.

الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر كُلَفٌ ولا سُخَرٌ حتى تُوضَع عنهم.

السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضعَ الجزية عنهم، وقد كانوا من أشدِّ الكفار عداوةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأيُّ خيرٍ حصل بهم للمسلمين حتى تُوضع عنهم الجزية دون سائر الكفار؟

السابع: أن الكتاب الذي أظهروه ادَّعَوا أنه بخط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهذا كذبٌ قطعًا، وعداوة علي - رضي الله عنه - لليهود معروفةٌ، وهو الذي قتل مرحبًا اليهودي، وأثخنَ في اليهود يومَ خيبر حتى كان الفتح على يديه.

الثامن: أن هذا لا يُعرف إلا من رواية اليهود، وهم القوم البُهت، أكذبُ الخلق على الله وأنبيائه ورسله، فكيف يُصدَّقون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يخالف كتاب الله تعالى؟!

التاسع: أن هذا الكتاب لو كان صحيحًا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين، وفي أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام المنصور والرشيد، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن تُوضع عنهم الجزية، أو يذكر ذلك فقيهٌ واحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا يجوز على الأمة أن تُجمِع على مخالفة سنة نبيِّها. وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتابٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتجُّون به كلَّ وقتٍ على من يأخذ الجزية منهم، ولا يذكره عالمٌ واحدٌ من علماء السلف؟ وإن اغترَّ به بعضُ من لا علْمَ له بالسيرة والمنقول من المتأخرين، فَشنَّع عليه أصحابه، وبيَّنوا خطأه، وحذَّروا من سقطته.

العاشر: أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب، وأنه زُورٌ مفتعلٌ وكذبٌ مختلقٌ. ولما أظهره اليهود بعد الأربع مائةٍ على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة، فأوقفَه عليه فقال الحافظ: هذا الكتاب زورٌ، فقال له الوزير: من أين هذا؟ فقال: فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان، وسعدٌ مات يومَ الخندق قبل خيبر، ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمانٍ، وخيبر كانت سنة سبعٍ. فأعجب ذلك الوزير.


أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم (1/ 10 - 14)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله