لله سبحانه على عبده عبودية في الأمر والنهي والقضاء والنِّعم

لله سبحانه على عبده أمرٌ أمرَهُ به وقضاءٌ يقضيه عليه ونعمةٌ يُنْعِمُ بها عليه؛ فلا ينفكُّ من هذه الثلاثة، والقضاءُ نوعان: إمَّا مصائبُ وإما معايبُ، وله عليه عبوديةٌ في هذه المراتب كلِّها.

فأحبُّ الخلق إليه: من عرفَ عبوديتَهُ في هذه المراتب ووفَّاها حقَّها؛ فهذا أقربُ الخلق إليه. وأبعدُهم منه: من جَهِلَ عبوديتَهُ في هذه المراتب فعطَّلها علمًا وعملًا.

فعبوديتُهُ في الأمر: امتثالُه إخلاصًا واقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وفي النهي: اجتنابُهُ خوفًا منه وإجلالًا ومحبَّةً.

وعبوديتُهُ في قضاء المصايب: الصبرُ عليها، ثم الرِّضَى بها وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها وهو أعلى من الرِّضى. وهذا إنما يتأتَّى منه إذا تمكن حبُّهُ من قلبه وعلم حُسْنَ اختياره له وبرَّه به ولطفَه به وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كره المصيبة.

وعبوديته في قضاء المعايب: المبادرة إلى التوبة منها والتنصُّل والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يرفعُها عنه إلا هو، ولا يَقِيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرَّت أبعدتْه من قربه وطَردتْه من بابه، فيراها من الضُّرِّ الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن؛ فهو عائذٌ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجيرٌ به منه، وملتجئٌ منه إليه، يعلم أنه إذا تخلى عنه وخلَّى بينه وبين نفسه فعنده أمثالُها وشرٌّ منها، وأنه لا سبيلَ له إلى الإقلاع والتوبة إلَّا بتوفيقه وإعانته، وأن ذلك بيده سبحانه لا بيد العبد؛ فهو أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه أو يأتي بمرضاة سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته؛ فهو ملتجئٌ إليه، متضرِّعٌ، ذليلٌ، مسكين، مُلْقٍ نفسَه بين يديه، طريحٌ ببابه، مستخذٍ له، أذلُّ شيءٍ وأكسره له، وأفقره وأحوجه إليه، وأرغبُهُ فيه، وأحبه له، بدنه متصرفٌ في أشغاله، وقلبه ساجدٌ بين يديه، يعلم يقينًا أنه لا خير فيه ولا له ولا به ولا منه، وأن الخير كله لله وفي يديه وبه ومنه؛ فهو وليُّ نعمته، ومبتدئه بها من غير استحقاق، ومُجرِيها عليه مع تمقُّته إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته؛ فحظُّه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظُّ العبد الذمُّ والنقصُ والعيب، قد استأثر بالمحاميد والمدح والثناء، وولي العبدُ الملامةَ والنقائص والعيوب؛ فالحمدُ كلُّه له، والخير كلُّه في يديه، والفضلُ كلُّه له، والثناءُ كلُّه له، والمنةُ كلُّها له؛ فمنه الإحسانُ ومن العبد الإساءةُ، ومنه التودُّدُ إلى العبد بنعمه ومن العبد التبغُّضُ إليه بمعاصيه، ومنه النُّصح لعبده ومن العبد الغشُّ له في معاملته.

وأمَّا عبودية النِّعم فمعرفتها والاعتراف بها أولًا، ثم العياذُ به أن يقع في قلبه نسبتُها وإضافتُها إلى سواه وإن كان سببًا من الأسباب؛ فهو مسبّبه ومقيمه؛ فالنعمة منه وحده بكلِّ وجه واعتبار، ثم الثناء بها عليه ومحبتُه عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته.

ومن لطائف التعبُّد بالنعم أن يَستكثِرَ قليلَها عليه، ويَستقِلَّ كثيرَ شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها، ولا وسيلةٍ منه توسَّل بها إليه، ولا استحقاقٍ منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيدُهُ النعم إلا انكسارًا وذلًّا وتواضعًا ومحبةً للمنعم.

وكلَّما جدَّد له نعمةً أحدثَ لها عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذلًّا، وكلما أحدثَ له قبضًا أحدثَ له رضىً، وكلما أحدثَ ذنبًا أحدثَ له توبةً وانكسارًا واعتذارًا، فهذا هو العبد الكيِّسُ، والعاجزُ بمعزلٍ عن ذلك.وبالله التوفيقُ.


الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 163 - 164)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله