الصواب في عِلة احتياج العالم إلى الربّ، وبيان أنواع الفقر

ولهذا كان‌‌ الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب تعالى غيرَ القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإنَّ الفلاسفة قالوا: علَّة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علَّة الحاجة الحدوث. والصواب أنَّ الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار. وفقرُ العالم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ أمرٌ ذاتي لا يعلَّل، فهو فقيرٌ بذاته إلى ربِّه الغني بذاته. ثمَّ يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلَّة على هذا الفقر.

والمقصود أنَّه سبحانه أخبرَ عن حقيقة العباد وذواتهم بأنَّها فقيرة إليه عزَّ وجلّ، كما أخبر عن ذاته المقدَّسة وحقيقتِه أنَّه غنيٌّ حميد. فالفقرُ المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي. فيستحيل أن يكون العبدُ إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ تعالى إلا غنيًّا، كما أنَّهُ يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا.

إذا عُرِف هذا، فالفقرُ فقران:

فقرُ اضطرارٍ، وهو فقرٌ عامٌّ لا خروج لِبَرٍّ ولا فاجر عنه. وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.

والفقر الثاني: فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما: معرفة العبد بربه، والثاني: معرفته بنفسه؛ فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا له فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته.

وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.

فاللَّه تعالى أخرج العبد من بطن أُمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيءٍ، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع، ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة؛ فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كمالُه أمرًا مشهودًا محسوسًا لكلِّ أحد، ومعلوم أنَّ هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.

فلمَّا أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلَّمه، وأقدره، وحرَّكه، وصرَّفه، ومكَّنه من استخدام بني جنسه، وسخَّر له الخيل والإبل، وسلَّطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء، وقهرِ الوحوش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجارِ، وشقِّ الأرض، وتعلية البناءِ، والتحيّل على جميع مصالحه، والتحرز والتحفظ ممَّا يؤذيه = ظن المسكينُ أنَّ له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه ملكةً مع اللَّه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتَّى كأنَّه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج المضطر، بل كان ذلك شخصًا آخر غيرَه؛ كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بُسْر بن جِحَاش القرشي أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصق يومًا في كفِّه فوضع عليها إصبعه ثمَّ قال: "قال اللَّه عزَّ وجلّ: بُنَيَّ آدم، أنَّى تعجزني! وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغتِ التراقي قلتَ: أتصدّق، وأنَّى أوانُ الصدقة! ".

ومن ههنا خُذِلَ مَن خُذِلَ ووُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فحُجب المخذول عن حقيقته وأُنسيَ نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورَته إلى ربه، فطغى وبغى وعتا، فحقّت عليه الشقوة. قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6 - 7] وقال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10].


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 13 - 16)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله