حقيقة الشرك

حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق وتشبيه المخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله، صلى الله عليه وسلم. فعكس الأمر من نكس الله قلبه وأعمى بصيرته وأركسه بكسبه، وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.

فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فضلا عن غيره - شبيها بمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.

فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.

ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب - كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.

فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورا على نور، (يهدي الله لنوره من يشاء) [النور: 35].

إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.

ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.

ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.

ومنها: الحلف باسمه تعظيما وإجلالا له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به، هذا في جانب التشبيه.

وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه.

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عز وجل: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته".

وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصورة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟

كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم أحيوا ما خلقتم" .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة" ، فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر.

والمقصود: أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الملوك، وحاكم الحكام، ونحوه.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أخنع الأسماء عند الله رجل يسمى بشاهان شاه - أي ملك الملوك - لا ملك إلا الله" وفي لفظ: "أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك" .

فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فهو سبحانه ملك الملوك وحده، وهو حاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلهم، لا غيره.


الداء والدواء = الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - ط دار المعرفة (ص136 - 138)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله