هل يرضى سبحانه بما قضى به الكفر بوجه من الوجوه؟

فإن قيل: فهذا في حكم رضا العبد بقضاء الرب؛ فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من الوجوه؟

قيل: هذا الموضع أشكل من الذي قبله.

وقد قال كثير من الأشعرية ــ بل جمهورهم ومن اتبعهم ــ: إن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد، وإن كل ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه.

ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال، وأجابوا بأنه لا يمتنع أن يقال: إنه يرضى بها، ولكن لا على وجه التخصيص، بل يقال: يرضى بكل ما خلقه وقضاه وقدّره، ولا نُفْرِد من ذلك الأمور المذمومة، كما يقال: هو ربّ كل شيء، ولا يقال: رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة.

وهذا تصريح منهم بأنه راضٍ بها في نفس الأمر، وإنما امتَنَع الإطلاق أدبًا واحترامًا فقط.

فلما أورد عليهم قوله: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: 7]، أجابوا عنه بجوابين:

أحدهما: لا يرضاه ممن لم يقع منه، وأما من وقع منه فهو يرضاه؛ إذ هو بمشيئته وإرادته.

والثاني: لا يرضاه لهم دينًا، أي: لا يشرعه لهم، ولا يأمرهم به، ويرضاه منهم كونًا.

وعلى قولهم فيكون معنى الآية: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) حيث لم يوجد منهم، فلو وُجِد منهم أحبه ورضيه، وهذا في البطلان والفساد كما تراه.

وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضى ما وُجِد من ذلك، وإن وقع بمشيئته، كما قال تعالى: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 108]، فهذا قول واقع بمشيئته وتقديره، وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه.

وكذلك قوله سبحانه: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205]، فهو سبحانه لا يحبه كونًا ولا دينًا، وإن وقع بتقديره، كما لا يحب إبليسَ وجنودَه، وفرعونَ وحزبَه، وهو ربّهم وخالقهم.

فمن جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبًّا لإبليس وجنوده، وفرعون وهامان وقارون، وجميع الكفار وكفرهم، والظلمة وفعلهم، وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة؛ فهو خلاف ما عليه فِطَرُ العالمين التي لم تغير بالتواطؤ والتواصي بالأقوال الباطلة.

وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالًا كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها، فقال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء: 22]، وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) [محمد: 28]، وقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]، وقال: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46]، ومُحَال حَمْل هذه الكراهة على الكراهة الدينية الأمرية؛ لأنه أمرهم بالجهاد. وقال: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) [الإسراء: 38].

فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن، ومُحَال أنه يحب ذلك ويرضى به، وهو سبحانه يتنزَّه ويتقدس عن محبة ذلك، وعن الرضا به، بل لا يليق ذلك بعبده؛ فإنه نقص وعيب في المخلوق أنْ يحبّ الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى؟!

وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر، وغلطهم فيه يوازي غلط النفاة في إنكار القدر، أو هو أقبح منه، وبه تسلّط عليهم النفاة ونادوا على قبح قولهم، وأعظموا الشناعة عليهم به.

فهؤلاء قالوا: يحب الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي والفساد.

وأولئك قالوا: لا يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه.

وأولئك قالوا: لا يكون في ملكه إلا ما يحبه ويرضاه.

وهؤلاء قالوا: يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون.

فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوًّا كبيرًا، والحمد لله الذي هدانا لما أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه، وفطر عليه عباده، وبرَّأنا من بدع هؤلاء وهؤلاء، فله الحمد والمنّة، والفضل والنعمة، والثناء الحسن الجميل، ونسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا مضلات البدع والفتن.


شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 373 - 376)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله