فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماء الدَّالّة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟
قيل: قد تقدَّم من الكلام في ذلك ما يكفي بعضه لذي الفطرة السليمة والعقل المستقيم. وأمَّا من فسدت فطرته، وانتكس قلبه، وضعفت بصيرة عقله، فلو ضُرب له من الأمثال ما ضُرب فإنَّه لا يزيده إلا عمًى وتحيرًا. ونحن نزيد ما تقدم إيضاحًا وبيانًا، إذ بسطُ هذا المقام أولى من اختصاره، فنقول:
قد علمتَ أنَّ جميع أسماءِ الربِّ جلَّ جلاله حسنى، وصفاته كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة؛ وله كل ثناءٍ وكلُّ حمدٍ ومدحة، وكلُّ خير فمنه وله وبيده، والشرُّ ليس إليه بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه. وإن كان في مفعولاته فهو خيرٌ بإضافته إليه، وشرٌّ بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسَّك بهذا الأصل ولا تُفارِقْه في كلِّ دقيق وجليل، وحكِّمه على كلِّ ما يرد عليك، وحاكِمْ إليه واجعله آخيتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها.
واعلم أنَّ للَّه خصائصَ في خلقه، ورحمةً وفضلًا يختص به من يشاءُ، وذلك موجَب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثمَّ إيَّاكَ أن تُصغي إلى وسوسِة شياطين الإنس والجنّ والنفس الجاهلة الظالمة أنَّه هلَّا سوَّى بين عباده في تلك الخصائص، وقسَّمها بينهم على السواء؟ فإنَّ هذا عين الجهلِ والسفَه من المعترض به. وقد بيّنَّا فيما تقدم أنَّ حكمته تأبى ذلك وتمنع منه.
ولكن اعلم أنَّ الأمرَ قسمةٌ بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا. فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولِكلِّ واحدٍ قسطُه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعملٌ فيما هو له مهيَّأ وله مخلوق.
وكلُّ ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنَّه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقَسْمه، فلذلك لا تضرهم الأدواءُ ولا السُّموم، بل متى وسوس لهم العدو، أو اغتالهم بشيءٍ من كيده، أو مسَّهم بشيء من طيفه {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف/ 201 - 202].
وإذا واقعوا معصيةً صغيرةً أو كبيرةً عاد ذلك عليهم رحمةً، وانقلب في حقهم دواءً، وبُدِّلَ حسنةً بالتوبة النصوح والحسنات الماحية؛ لأنَّه سبحانه عرَّفهم بنفسه وبفضله، وبأنَّ قلوبهم بيده وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم، وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزَّتَه في قضائه، وبرَّه وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجَتهم إليه وافتقارَهم وذلَّهم، وأنَّه إن لم يعفُ عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا.
فإنهم لمَّا أعطوه من أنفسهم العزمَ أن لا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبَهم، ثمَّ عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيمَ اقتداره، وجميلَ ستره إيَّاهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبردَ عفوه وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا بالتوبة إليه وجدوه غفورًا رحيمًا حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويُقيلهم العثرات، ويودهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاءِ، وتوسلوا إليه بذلّ العبيد وعزّ الربوبيّة. فتعرّف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءَه، ويسّرهم للتوبة والإنابة، وأقبل بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه. ولم تمنعه معاصيهم وجناياتُهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم، فتابَ قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فلمَّا تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرَّف إليهم تعرُّفًا آخر: فعرَّفهم رحمتَه، وحسنَ عائدته، وسعةَ مغفرته، وكريمَ عفوه، وجميلَ صفحه، وبرَّه وامتنانَه وكرمَه، وسرعةَ مبادرته قبولَهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرود، وشدَّة النفور، والإيضاع في طرق معاصيه.
وأشهدَهم مع ذلك حمدَه العظيم، وبرَّه العميم، وكرمَه في أن خلَى بينهم وبين المعصية، فنالوها بنعمته واعانته، ثمَّ لم يُخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاكِ والفسادِ الذي لا يرجى معه صلاح، بل تداركهم بالدواءَ الشافي، فاستخرج منهم داءَ لو استمرَّ معه لأفضى إلى الهلاك.
ثمَّ تداركهم بروحِ الرجاءِ، فقدفه في قلوبهم، وأخبر أنَّه عند ظنونهم به. ولو أشهدهم عظيمَ الجناية، وقبحَ المعصية، وغضبه ومقته على من عصاه فقط، لأورثهم ذلك المرضَ القاتل والداءَ العضال من الياس من رَوحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم. ولكن رحمهم قبل البلاء، وفي حَشْو البلاء، وبعد البلاء. وجعل تلك الآثار التي تُوجبها معصيتُه من المحن والبلاءِ والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوِّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده. فأشهدهم بالجناية عزَّةَ الربوبية وذلَّ العبيد، ورقَّاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته؛ فهم على كلِّ حال يربحون عليه، ويتقلبون في كرمه وإحسانه، فكلُّ قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير له، يسوقه به إلى كرامته وثوابه.
وكذلك عطاياه الدنيوية نعمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبَهم إيَّاها انقلبت من عطايا الآخرة، كما قيل: إنَّ اللَّه يُنعِم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت من عطايا الآخرة.
والربُّ سبحانه قد تجلَّى لقلوب المؤمنين العارفين، وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه، ومضاء مشيئته، وعظيم سلطانه، وعليّ شأنه، وكرمه وبره وإحسانه، وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية من ذلك، ووراءَه -ممَّا لم تحتمله قواهم، ولا يخطر ببال، ولا يدخل في خلَد- ما لا نسبةَ لما عرفوه إليه. فاعلم أنَّ الذين كان قِسْمُهم أنواع المعاصي والفجور، وفنون الكفر والشرك، والتقلب في غضبه وسخطه = قلوبُهم وأرواحهم شاهدةٌ عليهم بالمعاصي والكفر، مُقِرَّةٌ بأنَّ له الحجَّة عليهم وأنَّ حقَّه قِبَلهم. ولا يدخل النارَ منهم أحدٌ إلا وهو شاهدٌ بذلك، مقِرٌّ به، معترفٌ اعتراف طائع مختار لا مُكرَه مضطهد. فهذه شهادتُهم على أنفسهم وشهادةُ أوليائه عليهم.
والمؤمنون يشهدون له فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمتُه أقربَ إليهم من عقوبته.
فيشهدون بأنَّهم عبِيده ومِلكه، وأنَّه أوجدهم ليظهر بهم مجدُه، وينفذَ فيهم حُكمُه، ويمضي فيهم عدلُه، ويحقَّ عليهم كلمتُه، ويصدقَ فيهم وعيدُه، ويبين فيهم سابقُ علمه، ويعمر بها ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته.
وشهد أولياؤه عظيم ملكه، وعز سلطانه، وصدق رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدرَ ما اختصّهم به، ومن أي شيء حماهم وصانهم، وأيَّ شيء صرَف عنهم؛ وأنَّه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين.
وشهدوا له سبحانه بأنَّ ما كان منه إليهم وفيهم -ممَّا يقتضيه إتمامُ كلماته الصدق والعدل، وصدقُ قوله، وتحقيقُ مقتضى أسمائه- فهو محضُ حقَّه. وكل ذلك منه حسن جميل، له عليه أتمُّ حمدٍ وأكمله وأفضلُه. وهو حُكمٌ عدلٌ، وقضاءٌ فصل. وأنَّه المحمود على ذلك كلَّه فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة، ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقه، وعزٌّ أبداه، وملكٌ أعلنه، ومرادٌ له أنفذه؛ كما فعل بالبُدن وضروب الأنعام: أتمَّ بها مناسكَ أوليائه وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام إهلاكًا وإتلافًا. فأعداؤه الكفَّار المشركون به الجاحدون به أولى أن تكون دماؤهم قرابينَ أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله، كما قال حسَّان بن ثابت:
يتطهَّرون، يَرونَه قُربانَهم … بدماءِ مَن عَلِقوا من الكفَّار
وكذلك لمَّا ضحَّى خالد بن عبد اللَّه القَسْري بشيخ المعطِّلة الفرعونية الجعد بن درهم، فإنَّه خطبهم في يوم أضحى، فلمَّا أكمل خطبته قال: أيّها النَّاسُ ضَحُّوا، تقبَّل اللَّه ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنَّه زعمَ أنَّ اللَّه لم يكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيمَ خليلًا، تعالى عمَّا يقول الجعدُ علوًّا كبيرًا. ثمَّ نزل، فذبحه، وكان ضحيته. ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال.
فهذا شهود أوليائه من شان أعدائه، ولكن أعداؤه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانُه ورحمتُه، ولكن لمَّا حُجِبوا عن معرفته، ومحبته، وتوحيده، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ووصفه بما يليق به، وتنزيهه عمَّا يليق به = صاروا أسوأَ حالًا من الأنعام، وضُرِبوا بالحجاب، وأُبعِدوا عنه بأقصى البعد، وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغُيِّبتْ قلوبُهم من الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غيابات، ليتمَّ عليهم أمرُه، وينفذ فيهم حكمُه، واللَّه عليم حكيم.
طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 288 - 296)