المسألة الثامنة: إلى أين يستحبّ أن يبلغ بيديه عند الرَّفع؟
قال القاضي: فيه ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: يرفعهما حَذْو مَنْكبيه، نصّ عليه في مواضع من قوله وفعله:
أما قوله؛ فقال في رواية الأثرم: أما أنا فأذهب إلى المنكبين لحديث ابن عمر. وقال في رواية صالح وإسحاق بن إبراهيم: حذو منكبيه إذا كبّر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الرّكوع.
وأما فعله؛ فقال أحمد بن أَصْرم المُزَني: رأيتُ أبا عبد الله يرفع يديه في كلّ خفض ورفع يحاذي منكبيه.
وقال الحسن بن محمد الأنماطي: رأيت أبا عبد الله إذا كبّر في الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الرّكوع.
وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق.
والروايةُ الثانية: يرفعهما حتى يحاذي أذنيه، نصّ عليه في مواضع من قوله وفعله:
أما قوله؛ فقال في رواية الفضل بن زياد: ــ وقيل له: إلى أيّ موضع يرفع يديه؟ ــ قال: إلى فروع الأذنين.
وقال في رواية أبي الحارث ــ وقد سأله إذا افتتح الصلاة إلى أين يرفع يديه؟ ــ قال: يرفعهما إلى فروع أذنيه، وقال: الذي اختار له أن يجاوز بهما أذنيه، وقال: أذهبُ فيه إلى حديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه رفع يديه حتى يجاوز بهما أذنيه. قال: ورأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يجاوز بهما أذنيه.
وقال في رواية حرب ــ وقد سأله إلى أين يرفع عند الافتتاح؟ ــ فقال: إلى فروع الأذنين على حديث مالك بن الحويرث.
وأما فعله؛ فقال الفضل بن زياد: رأيتُ أحمد … يرفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الرّكوع.
وقال أبو طالب: رأيت أحمد يرفع يديه في الصلاة إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا قال: «سمع الله لمن حمده» إلى فروع أذنيه، وربما رفع إلى منكبيه، وربما رفعهما إلى صدره، ورأيت الأمر عنده واسعًا.
وقال أبوالحارث: رأيت أبا عبد الله يرفع حتى يحاذي بهما أذنيه. وهذه الرواية ...... (*)
قال في كتاب «الخلاف»: تواترت الرّواية عن أبي عبد الله من قوله وفِعْله: أن الأحبّ إليه إلى فروع يعني أذنيه، وإن رفعهما إلى المنكبين فهو عنده جائز، وبهذا قال أبو حنيفة.
والرواية الثالثة: أنه بالخيار إن شاء رفع إلى المنكبين، وإن شاء إلى الأذنين. نصَّ عليه في رواية أبي طالب فقال: من شاء إلى المنكبين، ومن شاء إلى الأذنين. روى مالك بن الحُويرث: إلى فروع الأذنين، وروى ابن عمر: حتى يحاذي منكبيه كلما …(**)
فظاهر هذا أنهما سواء في الفضل عنده، وهو اختيار الخِرَقي؛ لأنه قال: «ويرفع يديه إلى فروع أذنيه أوإلى حذو منكبيه» فخيَّر.
واختاره أبو حفص، فإنه قال: في ذلك روايتان، ثم قال: وكلاهما موافق للسنة. قال أبو بكر بن المنذر: وبه قال بعض أصحاب الحديث.
ثم قال: وهذا مذهبٌ حسن، وأنا إلى حديث ابن عمر أَمْيَل». انتهى كلامه.
قلت: وقد حكى الغزالي عن الشافعي ثلاثة أقوال، وأنكرها عليه غير واحد، قالوا: ومذهبه أن يحاذي بأطراف أصابعه أعلى أذنيه، وبإبهاميه شَحْمتي أذنيه، وبكفيه منكبيه.
قالوا: وهذا معنى قول الشافعي.
قال أصحابُ الأذنين: روى مالك بن الحُويرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبّر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، وقال: «سمع الله لمن حمده» فَعَل مثل ذلك.
رواه مسلم في «صحيحه» أيضًا عن وائل بن حُجر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ــ حين دخل في الصلاة وكبر ــ حيال أذنيه.
وفي «مسند أحمد» عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه حذو أذنيه.
وفي «المسند» أيضًا عن عبد الله بن الزبير قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح الصلاة فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه.
قالوا: وهذه الرواية راجحة على رواية الرفع إلى المنكبين؛ لاشتمالها على زيادة، فيجب قبولها.
قال أصحاب المَنْكِبين: ثبت في «الصحيحين» عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا بحذو منكبيه ثم يكبِّر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد».
وفي «سنن أبي داود» عن وائل بن حُجر أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبر.
وفي «سنن أبي داود» والترمذي عن أبي حُميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعلمكم بصلاته، كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. قالوا: صدقت.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قالوا: وقد روى الرفع إلى المنكبين عليٌّ، وأبو هريرة، وحديثهما في «سنن أبي داود».
قالوا: وهذه النصوص راجحة بقوّتها وصحّتها على الرواية إلى الأذنين. قاله إسحاق وابن المديني، ولذلك اتفق البخاري ومسلم على إخراج بعضها، ولم يخرج البخاري في «صحيحه» الرفعَ إلى الأذنين، وإنما انفرد به مسلم.
قالوا: ورواتها أكثر، لأنهم عليّ وأبو هريرة وابن عمر، وأبو حُميد في عشرة من الصحابة. ثم إنهم من أكابر الصحابة، وكان موضعهم من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقرب، وملازمتهم له أكثر، فيكونون أحفظ وأضبط من غيرهم، ويعلم أنَّ ما نقلوه هو الغالب على فعله - صلى الله عليه وسلم -، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حُجر وَفَدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجعا إلى مكانهما ولم يكن لهما ملازمةُ عليٍّ وابنِ عمر وأبي هريرة وأبي حُميد في عشرة من الصحابة.
ثم قد اخْتُلف عنهما وعن البراء في ذلك، ففي «مسند أحمد» عن وائل: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لأنظرنّ كيف يصلي، فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى كانتا حذو منكبيه.
وفيه أيضًا عن مالك بن الحُويرث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يجعلهما قريبًا من أذنيه، وفي لفظٍ للدارقطني: «حذو منكبيه».
وفي «سنن سعيد بن منصور» عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه.
قالوا: فاختلفت الروايات عن هؤلاء، ولم تختلف الرواية عن ابن عمر وأبي هريرة وعلي وأبي حميد، فالأخذ بها أولى.
قال المخيّرون: ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلا الأمرين، فالأَولى اتباع جميع الأحاديث، و تخيير المصلي بين الأمرين، ولا وجه لردِّ الأحاديث بعضها ببعض، كما يُخَيّر بين أنواع الأذان، والاستفتاح، وأنواع الوتر، وأنواع التشهّدات، فهذا الواجب في العمل بالسنن.
قال الجامعون: يمكن الجمع بين الرِّوايات كلّها وعدم التعارض بينها، فمن ذكر المنكبين أراد أصول الأصابع، ومن ذكر فروع الأُذنين أراد رؤوسها، ومن ذكر حِيال الأذنين أراد وسط الكفّ، فمن رفع يديه كذلك فقد رفعهما إلى فروع أذنيه وإلى منكبيه وإلى حيال أذنيه. وحُكِيَ هذا الجمع عن الشافعي وغيره، والأمرُ قريب. والله أعلم.
رفع اليدين في الصلاة (1/ 284 - 292)
(*) طمس بالأصل مقدار خمس كلمات
(**) مقدار كلمتين لم تظهرا