ثم قصة العُشَّاق، أئمة الفُسَّاق، وناكحي الذكران، وتاركي النِّسوان، وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون، وقطع دابرهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون، وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أُمَّةٍ من الأمم أجمعين، وجعلهم سلفًا لإخوانهم اللُّوطيَّة من المُتقدِّمين والمتأخِّرين، ولما تجرؤوا على هذه المعصية، وتمرَّدوا، ونهجوا لإخوانهم طريقها، وقاموا بأمرها، وقعدوا؛ ضجَّت الملائكةُ إلى الله من ذلك ضجيجًا، وعجَّت الأرض إلى ربِّها من هذا الأمر عجيجًا، وهربت الملائكة إلى أقطار السموات، وشكتهم إلى الله جميعُ المخلوقات، وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأْخذُ الظالمين إلا بعد إقامة الحُجَّة عليهم، والتقدُّم بالوعد والوعيد إليهم، فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم، وينذرهم عذابه الأليم، فأذَّن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملأ منهم والأشهاد، وصاح بها بين أظهُرِهم في كلِّ حاضرٍ وباد، وقال وكان في قوله لهم من أعظم الناصحين: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/80].
ثم أعاد لهم القول نصحًا وتحذيرًا، وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف/81] فأجاب العُشَّاق جواب من أُركِس في هواه وغيِّه، فقلبُه بعشقه مفتون، وقالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل/56].
فلمَّا أن حان الوقت المعلوم، وجاء ميقاتُ نفوذ القدر المحتوم، أرسل الرَّحمن ــ تبارك وتعالى ــ لتمام الإنعام والامتحان إلى نبيه لوطٍ ملائكةً في صورة البشر، وأجمل ما يكون من الصُّور، وجاءوه في صورة الأضياف النُّزول بذي الصَّدرِ الرَّحيب، فــ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود/77].
وجاء الصَّريخ إلى اللوطيّة: أنَّ لوطًا قد نزل به شبابٌ لم يَنْظُر إلى مثل حُسْنهم وجمالهم الناظرون، ولا رأى مثلهم الرَّاءون، فنادى اللُّوطيَّة بعضهم بعضًا أنْ هَلُمُّوا إلى منزل لوط، ففيه قضاءُ الشهوات، ونَيْلُ أكثر اللَّذَّات {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود/78].
فلمَّا دخلوا إليه، وهجموا عليه، قال لهم وهو كظيمٌ من الهمِّ والغمِّ، وقلبُه بالحزن عميد: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود/78].
فلما سمع اللُّوطية مقالته؛ أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود/79] فقال لهم لوطٌ مقالةَ المُضْطَهَد الوحيد: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود/80] فلمَّا رأت رسلُ الله ما يقاسي نبيُّه من اللوطيَّة؛ كشفوا له عن حقيقة الحال، وقالوا: هوِّن عليك، {يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود/81] فسُرَّ نبيُّ الله سرور المحب وأتاه الفرج بغتةً على يد الحبيب، وقيل له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود/81].
ولما أبو ا إلا مُراودته عن أضيافه، ولم يرعَوْا حقَّ الجار؛ ضرب جبريل بجناحه على أوجههم، فطمس منهم الأعين، وأعمى الأبصار، فخرجوا من عنده عُمْيانًا يتحسَّسون، ويقولون: ستعلم غدًا ما يَحِلُّ بك أيُّها المجنون!
فلمَّا انشقَّ عمود الصُّبح جاء النداء منْ عند ربِّ الأرباب: أن اخسف بالأمَّة اللوطيَّة، وأَذِقهم أليم العذاب، فاقتلع القويُّ الأمينُ جبريل مدائنهم على ريشةٍ من جناحه، ورفعها في الجوِّ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، وصياح دِيكَتِهمْ، ثم قلبها، فجعل عاليها سافلها، وأُتبعوا بحجارةٍ من سجِّيلٍ، وهو الطين المستحجِر الشديد.
وخوَّف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد، فقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود/82 ــ 83] فهذه عاقبة اللوطيَّة عُشَّاقِ الصُّوَر، وهم السَّلف، وإخوانُهم بعدهم على الأثر.
وإن لم تكونوا قوم لوطٍ بعينهم … فما قومُ لوطٍ منكمُ ببعيد
وإنَّهمُ في الخَسْفِ ينتظرونهم … على موْردٍ مِنْ مُهلَةٍ وصديد
يقولون لا أهلًا ولا مَرْحَبًا بكم … ألم يتقدَّم ربُّكم بوعيد
فقالوا بلى لكنَّكم قد سَنَنْتمُ … صراطًا لنا في العِشْق غيرَ حميد
أتينا به الذُّكْرانَ من عِشْقِنا لهم … فأوردنا ذا العشقُ شرَّ ورودِ
فأنتم بتضعيف العذاب أحقُّ من … مُتابِعِكم في ذاك غير رشيد
فقالوا وأنتم رُسلكم أنذرتكم … بما قد لقيناه بصدق وعيد
فما لكم فضل علينا وكلُّنا … نذوق عذاب الهون جدَّ شديد
كما كلُّنا قد ذاق لذَّة وصلِهم … ومجمعُنا في النَّار غيرُ حميد
روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص284 - 288 ط عطاءات العلم)