هل يصح إطلاق الشوق على الله تعالى

فهذا ممَّا لم يرد به القرآن ولا السنَّة بصريح لفظه. قال صاحب "منازل السائرين" وغيره: وسبب ذلك أنَّ الشوق إنَّما يكون لغائب.

ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجئ في حقِّ اللَّه ولا في حقِّ العبد.

وجوّزت طائفةٌ إطلاقَه كما يطلَق عليه سبحانه المحبَّة، ورووا في أثر أنَّه تعالى يقول: "طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشوَق".

وفي أثر آخر: أنَّ اللَّه تعالى أوحى إلى داود: قل لشبّان بني إسرائيل: لِمَ تشغلوا أنفسكم بغيري، وأنا مشتاق إليكم؟ ما هذا الجفاء؟.

وفي أثر آخر: أوحى اللَّه إلى داود: لو يعلم المدبرون عنِّي كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقًا إليَّ، وانقطعت أوصالهم من محبَّتي. يا داود، هذه إرادتي في المدبرين عنِّي، فكيف إرادتي في المقبلين عليّ؟

قالوا: وهذا الذي تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حقّ، فإنَّ كلَّ محبّ فهو مشتاق إلى لقاءِ محبوبه.

قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، وهو سبحانه لا يغيب عن عبده، ولا يغيب العبد عنه؛ فهذا حضور العلم. وأمَّا اللقاء والقرب فأمرٌ آخر. فالشوق يقع بالاعتبار الثاني، وهو قرب الحبيب ولقاؤه، والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت/ 5]. قال أبو عثمان الحيري: هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنِّي أعلم أن اشتياقكم إليَّ غالب، وأنا أجّلتُ للقائكم أجلًا، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه.

والصواب أن يقال: إطلاق اللفظ متوقّف على السمع، ولم يَرِدْ به، فلا ينبغي إطلاقه. وهذا كلفظ "العشق" أيضًا، فإنَّه لمَّا لم يرِدْ به سمعٌ فإنَّه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه. واللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه وأخبر به عنها أتمُّ من هذا وأجلُّ شأنًا، وهو لفظ "المحبة". فإنَّه سبحانه يوصف من كلِّ صفةِ كمالٍ بأكملها وأجلّها وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كلّ ما يريد بإرادته كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج/ 16] وبإرادة اليسر لا العسر، كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185]، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده، كقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء/ 27]. فإرادة التوبة له، وإرادة الميل لمتَّبعي الشهوات. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6].

وكذلك الكلام، يصف نفسه منه بأعلى أنواعه، كالصدق والعدل والحقّ. وكذلك الفعل، يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة.

وهكذا المحبة، وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها، فقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/ 54]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة/ 222] و {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة/ 195] و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران/ 146]. ولم يصِفْ نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإنَّ مسمَّى المحبَّة أشرف وأكمل من هذه المسمّيات، فجاءَ في حقّه إطلاقُه دونها، وهذه المسمّيات لا تنفكّ عن لوازم ومعانٍ تنزّه تعالى عن الاتّصاف بها.

وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنًى ولفظًا ممَّا لم يطلقه. فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخيّ. والخالق البارئ المصوّر أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى. والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق والمشفق. فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته؛ وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ، ولا سيَّما إذا كان مجملًا أو منقسمًا إلى ما يمدح به وغيره، فإنَّه لا يجوز إطلاقه إلا مقيّدًا.

وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنَّه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيّدًا، كما أطلقه على نفسه، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج/ 16]، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم/ 27]، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، فإنَّ اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذَمّ.

ولهذا المعنى -واللَّه أعلم- لم يجئ في الأسماء الحسنى "المريد"، كما جاء فيها "السميع البصير"، ولا "المتكلم"، ولا "الآمر الناهي"، لانقسام مسمَّى هذه الأسماء؛ بل وصَفَ نفسَه بكمالاتها وأشرف أنواعها.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 714 - 719)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله