صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

ففي «صحيح البخاري»، من حديث الزهري قال: دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له: ما يبكيك؟ فقال: «لا أعرف شيئًا ممَّا أدركت إلَّا هذه الصَّلاة، وهذه الصَّلاة قد ضُيِّعت».

وأنسٌ رضي الله عنه تأخَّر حتى شاهَدَ من إضاعة أركان الصَّلاة، وأوقاتها، وتسبيحها في الركوع والسجود، وإتمام تكبيرات الانتقال فيها= ما أنكره، وأخبر أنَّ هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بخلافه، كما ستقف عليه مفصَّلًا إنْ شاء الله.

وفي «الصَّحِيْحَين»، عنه أيضًا قال: «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أخف صلاةً ولا أتمَّ من صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -». زاد البخاريُّ: «وإنْ كان ليسمع بكاء الصَّبيِّ فيخفِّف مخافة أنْ تُفْتَن أُمُّه». فوَصَف صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتَّمام.

فلمَّا كان يقرأ في الفجر بالسِّتين إلى المائة كان هذا إيجازًا بالنِّسبة إلى ستمائة آيةٍ إلى ألفٍ. ولمَّا قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الإيجاز بالنِّسبة إلى البقرة.

وأنسٌ أيضًا هو القائل في الحديث المتَّفق عليه: «إنِّي لا آلو أن أصلِّي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بنا». قال ثابت: «كان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السَّجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي».

وممَّا يبيِّن ما ذكرناه ما رواه أبوداود في «سُنَنه»، من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: «ما صلَّيْتُ خلف رجلٍ أوجز صلاةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: «سمِعَ الله لمن حمده» قام حتى نقول: قد أوْهَم، ثم يكبِّر، ثم يسجد، وكان يقعد بين السَّجدتين حتى نقول: قد أوْهَم». هذا سياق حديثه.

وسرُّ ذلك: أنَّه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود والاعتدالين تصير الصَّلاة تامَّة؛ لاعتدالها وتقاربها، فيَصْدُق قوله: «ما رأيتُ أوجز ولا أتمَّ من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وهذا هو الذي كان يعتمده صلوات الله وسلامه عليه في صلاته؛ فإنَّه كان يعدلها، حيث يعتدل قيامها، وركوعها، وسجودها، واعتدالها.

ولا يناقض هذا ما رواه البخاريُّ في هذا الحديث: «كان ركوع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وبين السَّجدتين، وإذا رفع رأسه، ما خلا القيام والقعود قريبًا من السَّواء»؛ فإنَّ البراء هو القائل هذا وهذا؛ فإنَّه في السِّياق الأول أدخل في ذلك قيام القراءة، وجلوس التشهُّد.

فالأمران اللَّذان وصف بهما أنسٌ صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هما اللَّذان كان الأمراء يخالفونهما، وصار ذلك ـ أعني: تقصير الاعتدالين ـ شعارًا، حتى استحبَّه بعض الفقهاء، وكرِهَ إطالتهما؛ ولهذا قال ثابتٌ: «وكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا، حتى يقول القائل: قد نسي». فهذا الذي فعله أنسٌ هو الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وإنْ كرِهَهُ مَنْ كَرِهَه، فسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى وأحقُّ بالاتباع.

وقد ظنَّ طائفةٌ أنَّ مراده بذلك قيام الاعتدال من الركوع، وقعود الفصل بين السَّجدتين، وجعلوا الاستثناء عائدًا إلى تقصيرهما، وبنوا على ذلك أنَّ السُّنَّة تقصيرهما، وأبطل من غلا منهم الصلاةَ بتطويلهما. وهذا غلطٌ؛ فإنَّ لفظ الحديث وسياقه يُبْطِل ذلك، وفِعْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهَدْيُه الثابت عنه يبطل ظنَّ هؤلاء؛ فإنَّ لفظ البراء: «كان ركوعه، وسجوده، وبين السَّجدتين، وإذا رفع رأسه ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء». فكيف يقول: وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا رفع رأسه من الركوع؟! هذا باطلٌ قطعًا.

ورواه من حديث ابن أبي أوفى، وزاد فيه بعد قوله: «من شيءٍ بعد»: «اللَّهُمَّ طهِّرْني بالثَّلج والبَرَد والماء البارد، اللَّهُمَّ طهِّرْني من الذُّنوب والخطايا كما يُنقَّى الثَّوبُ الأبيضُ من الدَّنَس».

وهكذا فعل خلفاؤه الرَّاشدون من بعده. قال زيد بن أسلم: «كان عمرُ يخفِّفُ القيام والقعود، ويتمُّ الركوع والسجود».

وهذا موافقٌ لرواية البراء بن عازب: «أنَّها كانت قريبًا من السواء». فأحاديث الصَّحابة في هذا الباب يصدِّق بعضها بعضًا.

 

فصْلٌ

وفي «صحيح مسلمٍ»، عن عبدالله بن السَّائب قال: «صلَّى لنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبح بمكَّة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذِكر موسى وهارون ـ أوذِكر عيسى ـ أخَذَت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْلةٌ فرَكَع».

وفي «صحيح مسلمٍ» أيضًا عن جابر بن سمرة: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق/1]، وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا». فقوله: «وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا» أي: بعد صلاة الصُّبح أخفَّ من قراءتها، ولم يُرِدْ أنَّه كان بعد ذلك يخفِّف قراءة الفجر

ويدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ في «صحيحه»، من حديث شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظُّهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصُّبح أطول من ذلك».

فأخبر أنَّ هذا كان تخفيفه. وهذا ممَّا يبيِّن أنَّ قوله: «وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا» أي: بعد الفجر؛ فإنَّه جمع بين وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتَّخفيف، وبين قراءته فيها بـ {ق}، ونحوها.

وفي «الصَّحِيح»، عن ابن عباس أنَّه قال: إنَّ أمَّ الفضل سمِعَتْهُ وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات/1]، فقالت: «يا بُنيَّ لقد ذكَّرْتَنِي بقراءَتِك هذه السُّورة، فإنَّها لآخر ما سمعتُ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب».

وفي «الصَّحِيح»، عن ابن عباس أنَّه قال: إنَّ أمَّ الفضل سمِعَتْهُ وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات/1]، فقالت: «يا بُنيَّ لقد ذكَّرْتَنِي بقراءَتِك هذه السُّورة، فإنَّها لآخر ما سمعتُ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب».

وفي «صحيح البخاري» عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابتٍ: «مالَكَ تقرأ في المغرب بقِصَار المفصَّل، وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بطُولَى الطُّولَيَين». وسُئِل ابنُ أبي مليكة ـ أحد رواته ـ ما طُولَى الطُّولَيَين؟ فقال مِنْ قِبَل نفسه: «المائدة والأعراف».

وروى النَّسائي أيضًا من حديث ابن مسعودٍ: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالدُّخان».

فأمَّا العِشاء: فقال البراء بن عازب: «سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين/1]، وما سمعتُ أحدًا أحسن صوتًا منه». متَّفقٌ عليه.

وفي «المسند»، والتِّرمذي، من حديث بريدة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء الآخرة بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحوها من السُّور». قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ».

وأمَّا الظُّهر والعصر ففي «صحيح مسلمٍ»، من حديث أبي سعيدٍ الخدري قال: «كانت صلاة الظهر تُقام فينطلق أحدُنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثمَّ يأتي أهله فيتوضَّأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الأولى».

وفي روايةٍ للبخاري: «وكان يطوِّل الأولى من صلاة الصُّبح، ويقصِّر في الثَّانية». وفي روايةٍ لأبي داود قال: «فظنَّنا أنَّه يريد أنْ يُدْرِك النَّاسُ الرَّكعة الأولى».

عن عبدالله بن أبي أوفى: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الرَّكعة الأولى من صلاة الظُّهر حتى لا يُسْمَع وقع قدمٍ».

وقال أبو سعيد الخدري: «كُنَّا نَحْزِرُ قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظُّهر والعصر، فحزرنا قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَيْن من الظُّهر قدر {الم تَنْزِيلُ} السجدة، وحَزَرْنا قيامه في الأُخرَيَيْن قدر النِّصف من ذلك. وحَزَرْنا قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَين من العصر على قدر قراءته في الأُخْرَيَيْن من الظُّهر، وفي الأُخرَيَيْن من العصر على النِّصف من ذلك».

وقد احتجَّ به من استحبَّ قراءة السُّورة بعد الفاتحة في الأُخْرَيَيْن، وهو ظاهر الدلالة لو لم يجئ حديث أبي قتادة المتَّفق على صِحَّته، أنَّه كان يقرأ في الأُوْلَيَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأُخْرَيَيْن بفاتحة الكتاب. فذِكْرُه السُّورتين في الرَّكعتين الأُولَيين، واقتصاره على الفاتحة في الأُخرَيَيْن يدلُّ على اختصاص كُلِّ ركعتين بما ذكر من قراءتهما.

وقال جابر بن سمرة: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظُّهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصُّبح أطول من ذلك». رواه مسلمٌ.

وعنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج/1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق/1]، ونحوهما من السُّور». أخرجه أحمد، وأهل «السُّنَن». وفي «سنن النَّسائي».

وفي «السُّنَن»، من حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظُّهر، ثم قام فركع، فرأينا أنَّه قرأ {تَنْزِيلُ} السجدة».

وقال أنسٌ: «صلَّيتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظُّهر، فقرأ لنا بهاتين السُّورتين في الرَّكعتين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}». رواه النَّسائي.

وأخبروا عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي ما زال يصلِّيها حتى مات، ولم يذكر أحدٌ منهم أصلًا أنَّه نَقَصَ من صلاته في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنَّ تلك الصَّلاة التي كان يصلِّيها منسوخةٌ.

وكان عمر يصلِّي الصُّبح بالنَّحل، ويونس، وهود، ويوسف، ونحوها من السُّور.

فعن أبي موسى: أنَّ رجلًا قال: والله يا رسول الله إنِّي لأتأخَّر عن صلاة الغداة من أجل فلانٍ؛ ممَّا يطيل بنا! فما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظةٍ أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: «أيُّها النَّاس إنَّ منكم منفِّرين، فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاس فليتجوَّز، فإنَّ فيهم الضَّعيف والكبير وذا الحاجة». رواه البخاري، ومسلم.

وعن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمَّ أحدُكُم فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، وإذا صلَّى وحده فلْيُصلِّ كيف شاء». رواه البخاري ومسلم، واللَّفظ لمسلمٍ.

وقال أنس بن مالكٍ: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجِزُ الصَّلاة ويكملها». وفي لفظٍ: «يُوجِز ويُتِمُّ». متَّفقٌ عليه.

وعن عثمان بن أبي العاص أنَّه قال: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي. قال: «أنت إمامهم، فاقتد بأضْعَفِهم، واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا». رواه الإمام أحمد، وأهل السُّنن.

وروى أبوداود في «سننه»، من حديث ابن وهبٍ: أخبرني سعيد ابن عبد الرحمن بن أبي العمياء أنَّ سهل بن أبي أمامة حدَّثه: أنَّه دخل هو وأبوه على أنس بن مالكٍ بالمدينة، فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا تُشدِّدُوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدُوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدِّيارات؛ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد/27]». هذا الذي في رواية اللُّؤْلُؤي عن أبي داود.

فأمَّا سهل بن أبي أمامة فقد وثَّقه يحيى بن معين وغيره، وروى له مسلمٌ. وأمَّا ابن أبي العَمْياء فمِن أهل بيت المقدس، وهو وإنْ جُهِلَت حاله فقد رواه أبوداود وسكَتَ عنه؛ وهذا يدلُّ على أنَّه حسنٌ عنده.

وقوله: «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ أخفَّ صلاة ولا أتمَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ظاهرٌ في إنكاره التَّطويل. وقد جاء هذا مفسَّرًا عن أنس نفسه.

وقد صرَّح بذلك عمران بن الحصين لمَّا صلَّى خلف عليٍّ بالبصرة، قال عمران: «لقد ذكَّرني هذا صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معتدلة، كان يخفِّف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسُّجود». وهو حديثٌ صحيحٌ.

وعن معاذ بن عبدالله الجهني: أنَّ رجلًا من جُهَينة أخبره: «أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصُّبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة/1] في الركعتين كلتيهما، فلا أدري نسي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم قَرَأ ذلك عمدًا».رواه أبوداود.

وعن عقبة بن عامر قال: «كنتُ أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته، فقال لي: أَلَا أعلِّمُك سورتين لم يُقْرَأ بمثلهما؟ قلت: بلى، فعلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، فلم يَرَني أُعْجِبْتُ بهما، فلمَّا نزل للصُّبح قرأ بهما، ثم قال: كيف رأيت يا عقبة؟».

وفي «مسند الإمام أحمد»، و «سُنن النَّسائي»، من حديث عمار بن ياسر أنَّه صلَّى صلاةً فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتِمَّ الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: «أَمَا إنِّي دعوتُ فيها بدعاءٍ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به: اللَّهُمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحْيِنِي ما علِمْتَ الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرِّضا، والقصد في الفقر والغِنى، ولذَّة النَّظَر إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضرَّاء مُضِرَّة، ومن فتنة مُضِلَّة، اللَّهُمَّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين».

قالوا: وكيف يُقاس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُه من الأئمَّة؟ من محبَّة الصَّحابة له، والقيام خلفَه؛ وسماع صوته بالقرآن غَضًّا كما أُنْزِل، وشِدَّة رغبة القوم في الدِّين، وإقبال قلوبهم على الله، وتفريغها له في العبادة، ولهذا قال: «إنَّ منكم منفِّرين»، ولم يكونوا يَنْفِرُون من طول صلاته - صلى الله عليه وسلم -، فالذي كان يحصل للصَّحابة خلفه في الصَّلاة كان يحملهم على أنْ يَرَوا صلاته وإنْ طالت= خفيفةً على قلوبهم وأبدانهم؛ فإنَّ الإمام يحمل المأمومين بقلبه، وخشوعه، وصوته، وحاله. فإذا عَرِيَ من ذلك كلِّه كان كَلًّا على المأمومين، وثِقَلًا عليهم؛ فليخفِّف من ثقله عليهم ما أمكنه؛ لئلَّا يُبَغِّضهم الصِّلاةَ.

فالدِّين كلُّه في الاقتصاد في السَّبيل والسُّنَّة، والله تعالى يحبُّ ما داوم عليه العبد من الأعمال، والصَّلاةُ القصْدُ هي التي يمكن المداومة عليها، دون المتجاوزة في الطُّول.

 

فصْلٌ

فصارت أحاديث الرُّخصة في حقِّها شُبْهةً صادَفَت شهوةً، وفتورًا في العزم، وقِلَّة رغبةٍ في بذل الجهد في النَّصيحة في الخدمة، واستسهلت حقَّ الله تعالى.

فقامت في خدمة المخلوقين؛ كأنَّها على الفرش الوثيرة، والمراكب الهنيَّة، وقامت في حقِّ خدمة ربِّها وفاطرها كأنَّها على الجمر المُحْرِق، تعطيه الفضلة من قواها وزمانها، وتستوفي لأنفسها كمال الحظِّ.

ومن لم تكن قُرَّةُ عيْنِهِ في الصَّلاة، ونعيمُه وسرورُه ولذَّتُه فيها، وحياةُ قلبه، وانشراحُ صدره= فإنَّه لا يناسبه إلَّا هذا الحديث وأمثاله، بل لا يناسبه إلَّا صلاة السُّرَّاق والنَّقَّارين، فنقر الغراب أولى به من استفراغ وسْعِهِ في خدمة ربِّ الأرباب.

وحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - الصُّبح بالمعوِّذَتَيْن، وكان هذا في السَّفر، أولى به من حديث صلاته في الحضر بمائة آية إلى ستِّين!

فهو يميل من السُّنَّة إلى ما يناسبه، ويأخذ منها بما يوافقه، ويتلطَّف إنْ أحسن في تأويل ما يخالفه، ودفعه بالتي هي أحسن!

فنقول وبالله التَّوفيق: الإيجاز والتَّخفيف المأمور به، والتَّطويل المنهي عنه لا يمكن أنْ يُرْجَع فيه إلى عادة طائفةٍ، وأهل بلدٍ، وأهل مذهبٍ، ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم، ولا إلى اجتهاد الأئمَّة الذين يصلُّون بالناس، ورأيهم في ذلك؛ فإنَّ ذلك لا ينضبط، وتضطرب فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب، ويفسد وضع الصَّلاة، ويصير مقدارها تبعًا لشهوة النَّاس.

فالذي كان يفعله صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان يأمر به؛ فإنَّه كان إذا أمر بأمرٍ كان أوَّل الناس وأولاهم أخذًا به، وإذا نهى عن شيءٍ كان أحقَّ الناس وأولاهم بتركه؛ ولهذا قال شعيبٌ صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود/88].

كما روى قَزَعة قال: رأيتُ أبا سعيدٍ الخدري وهو مكثورٌ عليه، فلمَّا تفرَّق الناس عنه قلتُ: إنِّي لا أسألك عمَّا يسألك هؤلاء عنه؟ أسألك عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مالَكَ في ذلك من خيرٍ؟ فأعادها عليه، فقال: «كانت صلاة الظهر تُقَام، فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثُمَّ يأتي أهلَه، فيتوضَّأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الأولى؛ ممَّا يطوِّلها». رواه مسلم في «الصَّحيح».

ولهذا لمَّا صلَّى بهم أنسٌ قال: «إنِّي لا آلو أنْ أصلِّي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قال ثابتٌ: «فكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا انتصب قائمًا يقوم حتى يقول القائل: قد أوْهَمَ، وإذا جلس بين السَّجدتين مَكَث حتى يقول القائل: قد أوْهَمَ».

وقد بُلِيَ أنسٌ بِمَنْ وهَّمَه في ذلك، كما بُلِي بمن وهَّمَه في روايته ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته الجهر بـ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وقالوا: كان صغيرًا يصلِّي وراء الصُّفوف، فلم يكن يسمع جهرهم بها.

وقَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولأنسٍ عشر سنين، فخَدَمَه واختصَّ به، وكان يُعَدُّ من أهل بيته، وكان غلامًا كيِّسًا فَطِنًا، وتوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رجلٌ كاملٌ، له عشرون سنةً، ومع هذا كلِّه فيغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته، وقدر صلاته، وكيفية إحرامه! ويستمرُّ غلَطُه على خلفائه الراشدين من بعده، ويستمرُّ على صلاته في مؤخر المسجد، حيث لا يسمع قراءة أحدٍ منهم؟

وقال عمران بن حصين: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتدلة».

وقال عبدالله بن عمر: «إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأمُرُنا بالتَّخفيف، وإنْ كان ليَؤُمُّنا بالصَّافات». رواه الإمام أحمد، والنَّسائي.

ففي «الصَّحِيحَين» عن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأَقَمْنَا عنده عشرين ليلةً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسَأَلَنا عمَّن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلِّمُوهم، ومُرُوهم، فلْيُصلُّوا صلاةَ كذا في حين كذا، وصلاةَ كذا في حين كذا، وإذا حَضَرَت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمَّكم أكبرُكم، وصلُّوا كما رأيتموني أصلِّي». والسِّياق للبُخاري.

يوضِّحُ ذلك أنَّه ما من فعلٍ في الغالب إلَّا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنِّسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنِّسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللُّغة يُرْجَع فيه إليه. وليس من الأفعال العُرْفِيَّة التي يُرْجَع فيها إلى العُرْف؛ كالحِرْزِ، والقبض، وإحياء الموات.

ولهذا لمَّا فهم بعض من نكس الله قلبه أنَّ التَّخفيف المأمور به هو ما يمكن من التَّخفيف اعتقد أنَّ الصَّلاة كلَّما خُفِّفت وأُوجِزَت كانت أفضل! فصار كثيرٌ منهم يمرُّ فيها مرَّ السَّهم، ولا يزيد على «الله أكبر» في الركوع والسُّجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربَّما ظنَّ أنَّ الاقتصار على تسبيحةٍ واحدةٍ أفضل من ثلاثٍ!

وهذا كلُّه تلاعبٌ بالصَّلاة، وتعطيلٌ لها، وخداعٌ من الشيطان، وخلافٌ لأمر الله ورسوله، حيث قال تعالى: {وَأَقِيمُو الصَّلَاةَ} [البقرة/43]. فأَمَرَنا بإقامتها، وهو الإتيان بها قائمةً، تامَّة القيام والركوع والسجود والأذكار.

فالمصلُّون في الناس قليلٌ، ومقيمو الصَّلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر رضي الله عنه: «الحاجُّ قليلٌ، والرَّكب كثير».

فليس مَنْ عَمَدَ إلى أفضل ما يقدر عليه، فيزيِّنُه ويحسِّنُه ما استطاع، ثم يتقرَّب به إلى من يرجوه ويخافه= كَمَنْ يعمد إلى أسْقَط ما عنده وأهونه عليه، فيستريح منه، ويبعثه إلى مَنْ لا يقع عنده بموقع.

فإنَّما كبرت على غير هؤلاء لخلوِّ قلوبهم من محبَّة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوعِ له، وقِلَّة رغبتهم فيه؛ فإنَّ حضور العبد في الصَّلاة، وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغه وُسْعَه في إقامتها، وإتمامها= على قدر رغبته في الله.

وليس حظُّ القلب العامر بمحبَّة الله وخشيته والرَّغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصَّلاة كحظِّ القلب الخالي الخراب من ذلك.

وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربِّه؛ فإنَّه سبحانه أقبل عليه أوَّلًا، فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلمَّا أقبل على ربِّه حظي منه بإقبالٍ آخر أتمَّ من الإقبال الأوَّل.

فإنَّه إذا انتصب قائمًا بين يَدَي الرَّب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيُّومِيَّته.

فإذا قال: «سبحانك اللَّهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك» شاهد بقلبه ربًّا منزَّهًا عن كُلِّ عيبٍ، سالمًا من كُلِّ نقصٍ، محمودًا بكُلِّ حمدٍ. فحَمْدُه يتضمَّنُ وصْفه بكُلِّ كمالٍ، وذلك يستلزم براءَتَه من كُلِّ نقصٍ، تبارك اسمه. فلا يُذْكَر على قليلٍ إلَّا كثَّره، ولا على خيرٍ إلَّا أنْمَاه وبارك فيه، ولا على آفةٍ إلَّا أذهبها، ولا على شيطانٍ إلَّا ردَّه خاسئًا داحِرًا.

و «تعالى جدُّه» أي: ارتفعت عظمتُه، وجلَّت فوق كُلِّ عظمةٍ، وعلا شأنُه على كُلِّ شأنٍ، وقَهَر سلطانُه على كُلِّ سلطانٍ. فتعالى جدُّه أن يكون معه شريكٌ في ملكه وربوبيته، أو في إلهيَّته، أو في أفعاله، أو في صفاته، كما قال مؤمنو الجنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن/3]. فكم في هذه الكلمات من تجلٍّ لحقائق الأسماء والصِّفات على قلب العارف بها، غير المعطِّل لحقائقها.

فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة/2] وقف هنيئةً يسيرةً، ينتظر جواب ربِّه له، بقوله: «حمدني عبدي». فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة/3] انتظر الجواب بقوله: «أثْنى علَيَّ عبدي». فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة/4] انتظر جوابه: «يمجِّدُني عبدي».

فشاهَدَ قلبُه من ذكر اسم «الله» تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موحَّدًا مخوفًا، لا يستحقُّ العبادة غيره، ولا تنبغي إلَّا له، قد عَنَت له الوجوه، وخضعت له الموجودات، وخشعت له الأصوات، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 44]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم/26].

وشاهد من ذكر اسمه «ربِّ العالمين» قيُّومًا قام بنفسه، وقام به كل شيءٍ، فهو قائمٌ على كلِّ نفسٍ بخيرها وشرِّها، قد استوى على عرشه، وتفرَّد بتدبير ملكه. فالتَّدبير كلُّه بيَدَيْه، ومصير الأمور كلِّها إليه، فمراسيم التَّدبير نازلة من عنده، على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع، والإحياء والإماتة، والتَّولية والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب، وإغاثة الملهوفين، وإجابة المضطرِّين، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/29]، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لأمره، ولا مبدِّل لكلماته، تعرج الملائكة والرُّوح إليه، وتُعْرَض الأعمال أول النَّهار وآخره عليه؛ فيقدِّر المقادير، ويوقِّت لها المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائمًا بتدبير ذلك كلِّه وحفظه ومصالحه.

فبَلَغَت رحمتُهُ حيث بلغ علمُه؛ فاستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنَّة برحمته، والنَّار أيضًا برحمته؛ فإنَّها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنَّته، ويطهِّر بها أدران الموحِّدين من أهل معصيته، وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته.

ومن أخصِّ مشاهد هذا الاسم: شهود المصلِّي نصيبه من الرَّحمة، الذي أقامه بين يَدَي ربِّه، وأهَّلَه لعبوديته ومناجاته، وأعطاه ومنع غيره، وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره، وذلك من رحمته به.

وإذا لم يُعَطِّل حقيقة صفة المُلْكِ أطْلَعَتْهُ على شهود حقائق الأسماء والصِّفات، التي تعطيلها تعطيلٌ لمُلْكِه وجحدٌ له؛ فإنَّ الملِكَ الحقَّ، التَّامَّ المُلْكِ لا يكون إلَّا حيًّا، قيُّومًا، سميعًا، بصيرًا، مُريدًا، قادِرًا، متكلِّمًا، آمِرًا، ناهيًا، مستويًا على سرير مملكته، يرسل رسله إلى أقاصي مملكته بأوامره، فيرضى على من يستحقُّ الرِّضا، ويثيبُه ويكْرِمُه ويُدْنِيه، ويغضب على من يستحقُّ الغضب، ويعاقبه ويهينُه ويقْصِيه؛ فيعذِّب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويقرِّب من يشاء، ويُقْصِي من يشاء، له دار عذابٍ وهي النَّار، وله دار سعادة وهي الجنَّة.

فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة /4] ففيهما سِرُّ الخلق والأمر، والدُّنيا والآخرة، وهي متضمِّنة لأَجَلِّ الغايات، وأفضل الوسائل، فأجلُّ الغايات عبوديَّتُه، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحقُّ العبادة إلَّا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلُّ الوسائل.

وقد اشتملت هذه الكلمة على نَوْعَي التَّوحيد، وهما توحيد الرُّبُوبية، وتوحيد الإلهية، وتضمَّنَت التعبُّد باسم «الرَّبِّ» واسم «الله»، فهو يُعْبَد بألوهيَّته، ويُستَعان بربوبيَّته، ويهدي إلى الصِّراط المستقيم برحمته.

ثم يشهد الدَّاعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة/6] شدَّة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة، التي ليس هو إلى شيءٍ أشدّ فاقةً وحاجةً منه إليها ألبتَّة؛ فإنَّه محتاجٌ إليه في كُلِّ نَفَسٍ وطرفة عينٍ. وهذا المطلوب من هذا الدُّعاء لا يتمُّ إلَّا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، والهداية فيه، وهي هداية التَّفصيل، وخلق القدرة على الفعل، وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضيِّ المحبوب للرَّبِّ سبحانه وتعالى، وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله.

ثم بيَّن أنَّ أهل هذه الهداية هم المختصُّون بنعمته، دون {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وهم الذين عرفوا الحق ولم يتَّبعُوه، ودون {الضَّالِّينَ}، وهم الذين عبدوا الله بغير علمٍ.

فلمَّا فرغ من هذا الثَّناء والدُّعاء والتَّوحيد شرع له أنْ يطبع على ذلك بطابعٍ من التَّأمين، يكون كالخاتم له، وافق فيه ملائكة السَّماء. وهذا التَّأمين من زِينة الصَّلاة، كرفع اليَدَيْن الذي هو زِينة الصَّلاة، واتباع للسُّنَّة، وتعظيم أمر الله، وعبوديَّة لليَدَيْن، وشعار الانتقال من ركنٍ إلى ركنٍ.

وأفضل أذكار الصَّلاة ذكر القيام، وأحسن هيئات المصلِّي هيئات القيام؛ فخُصَّت بالحمد والثَّناء والمجد، وتلاوة كلام الربِّ جل جلاله؛ ولهذا نُهِي عن قراءة القرآن في الركوع والسُّجود؛ لأنَّهما حالتا ذُلٍّ وخضوعٍ وتطامنٍ وانخفاضٍ؛ ولهذا شُرِع فيهما من الذِّكر ما يناسب هيئتهما، فشُرِع للرَّاكع أنْ يذكر عظمة ربِّه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه، وأنَّه سبحانه يُوْصَف بوصف عظمته عمَّا يضادُّ كبرياءه وجلاله وعظمته.

وأبطل كثيرٌ من أهل العِلْم صلاة من تركها عمدًا، وأوْجَبَ سجود السَّهو على من سَهَا عنها. وهذا مذهب الإمام أحمد، ومن وافقه من أئمَّة الحديث والسُّنة.

وبالجملة: فسِرُّ الرُّكُوع تعظيم الرَّبِّ جل جلاله بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا الرُّكوع فعظِّمُوا فيه الرَّب».

 

فصْلٌ

ثم شفَع بقوله: «ربَّنا ولك الحمد، مِلءَ السَّموات والأرض، ومِلءَ ما بينهما، ومِلءَ ما شِئتَ من شيءٍ بعد».

وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما؛ فإنَّ قوله: «ربَّنا» متضمِّنٌ في المعنى: أنت الرَّبُّ والملك القيُّوم، الذي بيديه أَزِمَّة الأمور، وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: «ربَّنا» قولَه: «ولك الحمد»، فتضمَّن ذلك معنى قول الموحِّد: «له الملك وله الحمد».

فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود، وهو يملأ ما يخلقه الرَّبُّ تبارك وتعالى بعد ذلك ممَّا يشاؤه، فحمده قد ملأ كلَّ موجودٍ، وملأ ما سيوجد. فهذا أحسن التَّقديرَيْن.

ثمَّ أتْبَعَ ذلك بقوله: «أحق ما قال العبد» تقريرًا لحمده وتمجيده والثَّناء عليه، وأنَّ ذلك أحق ما نَطَق به العبد، ثمَّ أتْبَع ذلك بالاعتراف بالعبوديَّة، وأنَّ ذلك حُكمٌ عامٌّ لجميع العبيد.

أحدها: أنَّه المتفرِّد بالعطاء والمنع.

الثَّالث: أنَّه لاينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يُدْني من كرامته جُدُودُ بني آدم وحظوظُهم؛ من المُلْك، والرِّئاسة، والغنى، وطيب العَيش، وغير ذلك؛ إنَّما ينفعهم عنده التَّقرُّب إليه بطاعته، وإيثار مرضاته.

فاشتمل هذا الرَّكن على أفضل الأذكار وأنفع الدُّعاء؛ من حمده، وتمجيده، والثَّناء عليه، والاعتراف له بالعبوديَّة والتَّوحيد، والتنصُّل إليه من الذُّنوب والخطايا. فهو ذِكْرٌ مقصودٌ في ركنٍ مقصودٍ، ليس بدون الركوع والسُّجود.

 

فصْلٌ

والسُّجُود سِرُّ الصلاة، وركنها الأعظم، وخاتمة الركعة. وما قبله من الأركان كالمقدِّمات له، فهو شِبْهُ طواف الزِّيارة في الحجِّ؛ فإنَّه مقصود الحجِّ، ومحلُّ الدُّخول على الله وزيارته، وما قبله كالمقدِّمات له؛ ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ. وأفضل أحواله حالٌ يكون فيها أقرب إلى الله؛ ولهذا كان الدُّعاء في هذا المحلِّ أقرب إلى الإجابة.

فيكون هذا الخشوع، والخضوع، والتذلُّل رادًّا له إلى حكم العبوديَّة، ويتدارك به ما حصل له من الهفوة والغفلة، والإعراض الذي خرج به عن أصله، فَيتَمَثَّل له حقيقة التراب الذي خلق منه.

فإنَّ الله سبحانه خَلَقَه من الأرض التي هي مذلَّلةٌ للوطء بالأقدام، واستعمره فيها، وردَّه إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أُمُّه وأبوه وأصْلُه وفصْلُه، فضمَّته حيًّا على ظهرها، وميِّتًا في بطنها، وجُعِلَت له طُهْرًا ومسجدًا، فأُمِر بالسُّجود؛ إذ هو غاية خشوع الظَّاهر، وأجمع العبوديَّة لسائر الأعضاء، فيُعَفِّر وجهه في التُّراب؛ استكانةً وتواضعًا وخضوعًا وإلقاءً باليدين. وقال مسروقٌ لسعيد بن جبير: «يا سعيد، ما بقي شيءٌ يُرْغَب فيه إلَّا أن نعفِّر وجوهنا في هذا التَّراب له».

ومن كماله الواجب أوالمستحبِّ: مباشرةُ مصلَّاه بأديم وجْهِه، واعتماده على الأرض؛ بحيث ينالها ثِقْل رأسه، وارتفاع أسافله على أعاليه، فهذا من تمام السُّجود.

ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرُّون سُجَّدًا عند سماع كلامه، وذمَّ من لا يقع ساجدًا عنده. ولذلك كان قول من أوْجَبَه قويًّا في الدَّليل.

ولذلك أخبر سبحانه عن سُجُود جميع المخلوقات له؛ فقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النَّحل/49 - 50]. فأخبر عن إيمانهم بعلوِّه وفوقيَّته، وخضوعهم له بالسُّجود تعظيمًا وإجلالًا.

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد/15].

منه، وكان السُّجود أفضل أركانها الفِعليَّة، وسرَّها الذي شُرِعَت لأجله، وكان تكرُّره في الصَّلاة أكثر من تكرُّر سائر الأركان، وجعله خاتمة الركعة وغايتها، وشُرِع فعله بعد الرُّكوع؛ فإنَّ الركوع توطئةٌ له، ومقدِّمةٌ بين يَدَيه، وشُرِعَ فيه من الثَّناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد: «سبحان ربِّي الأعلى»، فهذا أفضل ما يُقَال فيه. ولم يَرِد عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمره في السُّجود بغيره؛ حيث قال: «اجعلوها في سجودكم».

وكان وصْفُ الرَّبِّ بالعُلُوِّ في هذه الحال في غاية المناسبة؛ لحال السَّاجد الذي قد انحطَّ إلى السُّفُل على وجهه، فذكر علو ربِّه في حال سُفُولِه، وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه، ونزَّه ربَّه عمَّا لايليق به ممَّا يضادُّ عظمَتَه وعلوَّه.

وجُعِل جلوس الفصْل محلًّا لهذا الدُّعاء لما تقدَّمه من حمد الله والثَّناء عليه والخضوع له، فكان هذا وسيلة للدَّاعي، ومقدِّمة بين يَدَي حاجته.

ثمَّ شَرَع له تكرار هذه العبوديَّة مرَّةً بعد مرَّةٍ إلى إتمام الأربع، كما شَرَع له تكرير الذِّكر مرَّةً بعد مرَّةٍ؛ لأنَّه أبلغ في حصول المقصود، وأدْعى إلى الاستكانة والخضوع.

ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التَّحيَّات وأفضلها، عوضًا عن تحيَّة المخلوق للمخلوق إذا واجَهَه أو دخل عليه. فإنَّ النَّاس يحيُّون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيَّات التي يتَحبَّبُون بها إلى قلوبهم. فبعضهم يقول: أنعم صباحًا، وبعضهم يقول: لك البقاء والنِّعمة، وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك، وبعضهم يقول: تعيش ألف عام، وبعضهم يسجد للملوك، وبعضهم يسلِّم. فتحيَّاتهم بينهم تتضمَّن ما يحبُّه المُحَيَّا من الأقوال والأفعال.

فـ «التحيَّات» هي تحيَّةٌ من العبد للحيِّ الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيَّات من كُلِّ ما سواه؛ فإنَّها تتضمَّن الحياة والبقاء والدَّوام، ولا يستحقُّ أحدٌ هذه التحيَّات إلَّا الحيُّ الباقي الذي لا يموت، ولا يزول ملكُه.

وكذلك قوله: «والطَّيِّبات»، هي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ؛ أي: الطَّيِّبات من الكلمات والأفعال والصِّفات والأسماء لله وحده.

فالطيِّبات كلُّها له، ومضافةٌ إليه، وصادرةٌ عنه، ومنتهيةٌ إليه. قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلَّا طيِّبًا». وفي حديث رقية المريض، الذي رواه أبوداود وغيره: «أنت ربُّ الطَّيِّبِين».

وقد حكم سبحانه ـ بشرعه وقدره ـ أنَّ الطَّيبات للطَّيِّبين.

ولمَّا كان السَّلام من أنواع التحيَّة، وكان المسلِّم داعيًا لمن يحيِّيه، وكان الله سبحانه هو الذي يُطْلَبُ منه السَّلام، لا يُطْلَبُ له السَّلام ـ فإنَّه السَّلام، ومنه السَّلام ـ= شُرِع أنْ يُطْلَب منه السَّلام لعباده الذين اختصَّهم بعبوديَّته، وارتضاهم لنفسه. وشرع أنْ يبدأ بأكرمهم عليه، وأحبِّهم إليه، وأقربهم منه منزلةً في هذه التَّحيَّة.

وشُرِعَت هذه التَّحيَّة في وسط الصَّلاة إذا زادت على ركعتين، تشبيهًا لها بجلسة الفصل بين السَّجدتين، فهي بين الرَّكعتين الأُوليَيْن والأُخْرَيَيْن كالجلوس بين السَّجدتين. وفيها مع الفصل راحة للمصلِّي؛ لاستقباله الرَّكعتين الأُخْرَيَيْن بنشاطٍ وقوةٍ، بخلاف ما إذا وَالَى بين الركعات. ولهذا كان الأفضل في النَّفل مثنى مثنى، وإنْ تطوَّع بأربع جلس في وسطهنَّ.

 

فصْلٌ

فكأنَّ المصلِّي توسَّل إلى الله سبحانه بعبوديَّته، ثم بالثَّناء عليه، والشَّهادة له بالوحدانيَّة، ولرسوله بالرِّسالة، ثم بالصَّلاة على رسوله، ثُمَّ قيل له: تخيَّر من الدُّعاء أحبَّه إليك. فذاك الحقُّ الذي عليك، وهذا الحقُّ الذي لك.

فإذا أتى بها المصلِّي أُمِر أنْ يستعيذ بالله من مجامع الشَّرِّ كلِّه؛ فإنَّ الشر إمَّا عذاب الآخرة، وإمَّا سببه. فليس الشرُّ إلَّا العذاب وأسبابه.

ثمَّ شُرِع له من الدُّعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته. والدُّعاء في هذا المحلِّ قبل السَّلام أفضل من الدُّعاء بعد السَّلام، وأنفع للدَّاعي.

وسِرُّ ذلك: أنَّ المصلِّي قبل سلامه في محلِّ المناجاة والقُرْبة بين يَدَي ربِّه، فسؤاله في هذه الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يدي ربِّه. وقد سُئِل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاء أسمع؟ فقال: «جوف اللَّيل، وأدبار الصَّلاة المكتوبة».

وقد يُرَاد بدُبُرِها ما بعد انقضائها، بقرينةٍ تدلُّ عليه؛ كقوله: «تسبِّحُون الله، وتحمدونه، وتكبرونه، دُبُر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين». فهنا دُبُرُها بعد الفراغ منها. وهذا نظير انقضاء الأجل؛ فإنَّه يُرَاد به آخر المدَّة ولمَّا يفرغ، ويُرَاد به فراغها وانتهاؤها.

 

فصْلٌ

فلا أحسن من هذا التَّحليل للصَّلاة، كما أنَّه لا أحسن من كون التَّكبير تحريمًا لها. فتحريمها تكبير الرَّبِّ تعالى، الجامع لإثبات كلِّ كمالٍ له، وتنزيهه عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله.

قال المكمِّلُون للصَّلاة: فصلاةٌ وُضِعَت على هذا النَّحو وهذا التَّرتيب، لا يمكن أن يحصل ما ذكرناه من مقاصدها ـ التي هي جزءٌ يسيرٌ من قدرها وحقيقتها ـ إلَّا مع الإكمال والإتمام والتمهُّل الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ومحالٌ حصول ما ذكرناه مع النَّقر

وأمَّا استدلالكم بأحاديث الأمر بالإيجاز فقد بيَّنَّا أنَّ الإيجاز هو الذي كان يفعله، وعليه داوم، حتى قبَضَه الله إليه، فلا يجوز غير هذا ألبتَّة.

وأمَّا قراءتُه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بسورة التَّكوير في الفجر فإنْ كان في السَّفر فلا حُجَّة لكم فيه، وإنْ كان في الحضَر فالذي حَكَى عنه ذلك لم يقل: إنَّه كان يواظب على ذلك؛ بل سمعه يقرأ بها مرَّةً، وهذا لا يخالف رواية من رَوَى عنه أنَّه كان يقرأ فيها بالسِّتين إلى المائة، وبـ «ق» ونحوها؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل في الصَّلاة وهو يريد إطالتها، فيخفِّفُها لعارضٍ؛ من بكاء صبيٍّ وغيره.

فأين عِلْم من صلَّى مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين كوامل إلى عِلْم مَنْ لعلَّه لم يصلِّ معه إلَّا تلك الصَّلاة الواحدة، أو صلواتٍ يسيرةٍ؛ فإنَّ عمَّ هذا السَّعدي أوأباه ليس من مشاهير الصَّحابة المداومين الملازمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كملازمه أنسٍ، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري، وعبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم ممَّن ذكر صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - وقدرها.

ولا ريب أنَّ سجوده وركوعه إمَّا مساوٍ لهذين الرُّكنين أو أطول منه، وأنتم تقولون: إنَّ ركوعه وسجوده كان أطول من قيامه بعد الركوع، وجلوسه بين السَّجدتين، حتى تكرهوا إطالتهما، ويغلو من يغلو منكم فيبطل الصلاة بإطالتهما!

وقد حكم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ طول صلاة الرجل من فِقْهِه، وهذا الحكم أولى من الحُكْمِ له بقلَّة الفقه؛ فحُكْمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحُكْمُ الحق، وما خالفه الحكم الباطل الجائر. فروى مسلمٌ في «صحيحه»، من حديث عمَّار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مئنَّةٌ من فقهِهِ، فأطيلوا الصَّلاة، واقْصُروا الخطبة». والمَئِنَّة: العلامة.

وفي «صحيح ابن حبان»، و «سنن النَّسائي»، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ الذِّكْرَ، ويقلُّ اللَّغوَ، ويطيل الصَّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنفُ يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة». فهذا فعلُه، وذاك قولُه في مثل صلاة الجمعة التي يجتمع لها الناس، وكان يقرأ فيها بسورة الجمعة والمنافقين كاملتين، ولم يقتصر على الثلاث آيات من آخرهما في جمعةٍ واحدةٍ أصلًا. فعطَّل كثيرٌ من الناس سُنَّته، فاقتصر على آخرهما، ولم يقرأ بهما كاملتين أصلًا.

فإنْ جاءهم حديثٌ صحيحٌ يخالف ما ألِفُوه واعتادوه قالوا: هذا منسوخٌ، أوخلاف الإجماع، والعيار على ذلك عندهم مخالفة أقوالهم.

فهذا صِدِّيقُ الأمَّة وشيخ الإسلام، صلَّى الصُّبح، فقرأ البقرة من أوَّلها إلى آخرها ـ وخَلْفه الصَّغير والكبير وذو الحاجة ـ فقالوا له: يا خليفة رسول الله، كادت الشمس تطلع! فقال: «لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين». ومَضَى على منهاجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وكان يقرأ في الفجر بالنَّحل ويوسف، وبهود ويونس، وبني إسرائيل، ونحوها من السور.

فيالله العجب! ما الذي حرَّم الاقتداء به في ذلك، أوجعله مكروهًا؟ ونحن نقول: كلَّا والذي بعثه بالحق، إنَّ الاقتداء به في ذلك مرضاة لله ورسوله، وإنْ تَرَكَها مَنْ تَرَكَها.

ويكفي في ردِّ حديث ابن أبي العمياء ما تقدَّم من الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة، التي لا مَطْعَن في سندها، ولا شبهة في دلالتها. فلو صحَّ حديث ابن أبي العمياء ـ وهو بعيدٌ عن الصِّحَّة ـ لوجب حمله على أنَّ تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسُّنَّة الرَّاتبة، كسُّنَّة الفجر والمغرب والعشاء، وتحيَّة المسجد، ونحوها، لا أنَّ تلك صلاته التي كان يصلِّيها بأصحابه دائمًا. وهذا ممَّا يقطع ببطلانه، وتردُّه سائر الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة.

فالسُّنَّة التَّخفيف حيث خفَّف، والتَّطويل حيث أطال، والتوسُّط غالبًا.

وأمَّا حديث معاذٍ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟» فلم يتعلَّق السُّرَّاق منه إلَّا بهذه الكلمة، ولم يتأمَّلوا أوَّل الحديث وآخره! فاسْمَع سياق قصَّة معاذٍ. فعن جابر بن عبدالله قال: أقبل رجلٌ بناضِحَين وقد جنح اللَّيل، فوافق معاذًا يصلِّي، فترك ناضِحَيه، وأقبل إلى معاذٍ، فقرأ بسورة البقرة أو النِّساء، فانطلق الرجل، وبَلَغه أنَّ معاذًا نال منه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه معاذًا، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفتَّانٌ أنت، أو قال: أفاتنٌ أنت؟ ثلاث مرار، فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]؛ فإنَّه يصلِّي وراءك الكبير، والضَّعيف، وذو الحاجة». رواه البخاري ومسلم، ولفظه للبخاري.

وعن معاذ بن رفاعة الأنصاري عن سليم ــ رجلٍ من بني سلمة ـ: أنَّه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام ــ ونكون في أعمالنا بالنَّهار ــ فينادي بالصَّلاة، فنخرج إليه، فيطوِّل علينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتَّانًا، إمَّا أنْ تصلِّي معي، وإمَّا أنْ تخفِّف على قومك». ثُمَّ قال: «يا سُليم، ما معك من القرآن؟» قال: إنِّي أسأل الله الجنة، أوقال: أسأله الجنَّة، وأعوذ به من النَّار، والله ما أحسن دَنْدَنَتَك ولا دَنْدَنَة معاذ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلَّا أنْ نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار!».

فإنْ قيل: فقد روى الإمام أحمد، من حديث بريدة: أنَّ معاذ بن جبل صلَّى بأصحابه صلاة العشاء، فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]، فقام رجلٌ قبل أنْ يفرغ فصلَّى وذهب، فقال له معاذٌ قولًا شديدًا، فأتى الرَّجلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه، فقال: إنِّي كنت أعمل في نخلي وخِفْتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلِّ بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحوها من السُّور» = فقد أجيب عن هذا بأنَّ قصة معاذ تكرَّرت.

وأجودُ من هذا الجواب: أنْ يكون قرأ في الرَّكعة الأولى بالبقرة، وفي الثَّانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]، فذكر بعضهم قراءته في الأولى فقال: «صلَّى بالبقرة»، وبعضهم قراءته في الثَّانية، فقال: «صلَّى بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]».

وقد حفظ الحديث جابرٌ فقال: «كان معاذٌ يصلِّي مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثُمَّ أتى قومه فأمَّهُم، فافتتح بسورة البقرة». وذكر القِصَّة. فهذا جابرٌ أخبر أنَّه فعل ذلك مرَّةً، وأنَّه قرأ بالبقرة ولم يشكَّ، وهذا الحديث متَّفقٌ على صِحَّته، أخرجاه في «الصَّحِيْحَين». والله أعلم.

 

فصْلٌ

فالتعمُّق والتَّنطُّع: مخالفة ما جاء به، وتجاوزه، والغلوُّ فيه.

وقد قال علي بن أبي طالبٍ: «خير النَّاس النَّمط الأوسط؛ الذي يرجع إليهم الغالي، ويلحق بهم التَّالي». ذكره ابن المبارك عن محمد ابن طلحة عن عليٍّ.

وقال بعض السَّلف: «دينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه».

فمَنْعُ ذي القُرْبى والمسكين وابن السَّبيل حقَّهُم انحرافٌ في جانب الإمساك، والتَّبذيرُ انحرافٌ في جانب البَذْل، ورضا الله فيما بينهما؛ ولهذا كانت هذه الأمَّة أوسط الأُمم، وقبلتها أوسط القِبَل بين القِبْلَتَيْن المنحَرِفَتَيْن، والوسط دائمًا محميٌّ بالأطراف، فالخَلَل إليها أسرع، كما قال الشَّاعر:

كانت هي الوسط المحْمِي فاكتَنَفَتْ … بها الحوادث حتَّى أصبحَتْ طَرَفَا

وأمَّا قولهم: إنَّ محبَّة الصَّحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولصوته وقراءته يحملهم على احتمال إطالته، فلا يجدون لها مشقَّةً= فلعمر الله إنَّ الأمر كما ذكروه، بل حبُّهم له يحملهم على بذل نفوسهم وأموالهم بين يديه، وعلى وقاية نَفْسِه الكريمة بنفوسهم؛ فكانوا يتقدَّمون إلى الموت بين يَدَيْه تقدُّم المحبِّ إلى رضا محبوبه.

فأَتْبَاعُه في مجاهدة هذه الفِرَق دائبون، وعلى متابعة سُنَّته دائرون، فإن كان قد غاب عن أعينهم شخصه الكريم فقد شاهدوا ببصائرهم ما كان عليه الهَدْي المستقيم.

 

فصْلٌ

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصَّلاة واستقبل القِبْلة ووقف في مصلَّاه= رفع يَدَيْه إلى فروع أُذُنَيه، واستقبل بأصابعه القبلة ونشرها، وقال: «الله أكبر».

ثم كان يمسك شماله بيمينه، فيضعها عليها فوق المِفْصَل، ثم يضعهما على صَدْرِه، ثُمَّ يقول: «سبحانك اللَّهُم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك».

وكان يقول أحيانًا: «وجَّهْتُ وجهي للَّذي فَطَر السَّماوات والأرض، حنيفًا، وما أنا من المشركين، {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام/162 - 163]. اللَّهُمَّ أنت الملك، لا إله إلَّا أنت، أنت ربِّي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرِفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنت، لبَّيْكَ وسَعْدَيْك والخير كلُّه في يَدَيك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعالَيْت، استغفرك وأتوب إليك». ولكن هذا إنَّما حُفِظ عنه في صلاة اللَّيل.

ورُبَّما كان يقول: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا أنت، لا إله إلَّا أنت، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده».

ثم يقرأ فاتحة الكتاب، فإنْ كانت الصَّلاة جهرية أسْمَعَهُم القراءة، ولم يُسْمِعهم «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فربُّه أعلم هل كان يقرؤها أم لا. و‌‌كان يقطِّع قراءته آيةً آيةً، ثُمَّ يقف على {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يبتديء {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ويقف، ثُمَّ يبتديء {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. على ترسُّلٍ وتمهُّلٍ وترتيل، يمدُّ {الرَّحْمَنِ}، ويمُدُّ {الرَّحِيمِ}. وكان يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالألف.

واختلفت الرِّواية عنه، هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السُّورة، أم كانت سكتته بعد القراءة كلِّها؛ فقال يونس عن الحسن عن سمرة: «حَفِظْتُ سكتتين، سكتةً إذا كبَّر الإمام حتى يقرأ، وسكتةً إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الرُّكوع»، وصدَّقَهُ أُبَيُّ بن كعبٍ على ذلك. ووافق يونسَ أشعثُ الحمراني عن الحسن فقال: «سكتة إذا استفتح، وسكتة إذا فرغ من القراءة كلِّها».

وقال قتادة أيضًا عن الحسن عن سمرة: «سكتتان حفظتهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا دخل في الصَّلاة، وإذا فرغ من القراءة»، ثم قال بعد «وإذا قال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}».

وبالجملة فلم يُنْقل عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها مَنْ خَلْفه، وليس في سكوته في هذا المحلِّ إلَّا هذا الحديث المختلف فيه كما رأيتَ. ولو كان يسكت هنا سكتة طويلة يدرك فيها المأموم قراءة الفاتحة لما خفي ذلك على الصَّحابة، ولكان معرفتهم به ونَقْلهم له أهم من سكتة الاستفتاح.

ولم ينقل أحدٌ عنه أنَّه قرأ بآيةٍ من سورةٍ أو بآخرها إلَّا في سُنَّة الفجر؛ فإنَّه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة/136] الآية، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران/64] الآية.

وأمَّا الثَّاني: فقراءته في الصُّبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة/1] في الرَّكعتين كِلْتَيهما. والحديثان في «السُّنن».

وكان يمدُّ قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصَّلوات، وأقصر ما حُفِظ عنه أنَّه قرأ به فيها في الحَضَر {ق} ونحوها.

وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، و {هَلْ أَتَى} [الإنسان/1] كاملتين. ولم يقتصر على إحداهما، ولا على بعض هذه وبعض هذه قط.

وكان يقرأ في العيدين بسورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1] كاملتين، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر. وكان يقرأ في صلاة السِّرِّ بسورةٍ فيها السَّجدة أحيانًا، فيسجد للسَّجدة ويسجد معه مَنْ خَلْفه.

وكذلك كان يطيل الرَّكعة الأولى من كُلِّ صلاةٍ على الثَّانية. وكانت قراءته في العصر في الرَّكعتين الأُوْلَيَيْن في كُلِّ ركعة قدر خمس عشرة آية، وكان يقرأ في المغرب بالأعراف تارةً، وبالطُّور تارةً، والمرسلات تارةً، وبالدُّخان تارةً.

وكان يقرأ في عشاء الآخرة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين/1]، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق/1]، ويسجد فيها، ويسجد معه جميع مَنْ خَلْفَه، وبـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحو ذلك من السُّور.

ثُمَّ كان يرفع يَدَيه إلى أنْ يحاذي بهما فروع أُذُنَيْه، كما رفعهما في الاستفتاح، صحَّ عنه ذلك كما صحَّ التَّكبير للرُّكوع، بل الذين رَوَوْا عنه رفع اليَدَين ههنا أكثر من الذين رَوَوْا عنه التَّكبير.

ثُمَّ قال: «سبحان ربِّي العظيم». ورُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: «سبحان ربِّي العظيم وبحمده». قال أبوداود: «وأخاف أنْ لا تكون هذه الزِّيادة محفوظةً». وربَّما مكث قدر ما يقول القائل عشر مرَّات، وربَّما مَكَث فوق ذلك ودونه.

ثم كان يرفع رأسه، قائلًا: «سمع الله لمن حمده»، ويرفع يَدَيه كما رفعهما عند الركوع.

وكان يُطِيْل هذا الرُّكن حتَّى يقول القائل: «قد نَسِي». وكان يقول في صلاة اللَّيل فيه: «لربِّي الحمد، لربِّي الحمد».

 

فصْلٌ

وقال عنه ابن عمر: «إنَّه كان يضعُ يَدَيه قبل رُكْبَتَيه».

وروى عنه المقبري عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سجد أحَدُكم فليبدأ برُكْبَتَيْه قبل يَدَيْه». فأبو هريرة قد تعارضت الرِّواية عنه، وحديث وائل وابن عمر قد تعارَضَا.

وهذا لو ثَبَت لكان فيه الشِّفاء، لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاريُّ: «عنده مناكير»، وقال ابن معين: «ليس بشيءٍ، لا يُكْتَب حديثه»، وقال النَّسائي: «متروك الحديث».

قال السَّابقون باليَدَين: قد صحَّ حديث ابن عمر؛ فإنَّه من رواية عبيدالله عن نافع عنه. قال ابن أبي داود: «وهو قول أهل الحديث».

قالوا: وهذه سُنَّةٌ رواها أهل المدينة، وهم أعلم بها من غيرهم.

قالوا: وحديث وائل بن حُجْر له طريقان، وهما معلولان، في إحداهما شريكٌ، تفرَّد به. قال الدَّارقطنيُّ: «وليس بالقويِّ فيما يتفرَّدُ به».

قال السَّابقون بالرُّكبتين: حديث وائل بن حُجْر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر. قال البخاريُّ: «حديث أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة= لا يُتَابَع عليه محمد بن عبدالله بن الحسن». قال: «ولا أدري سمع من أبي الزِّناد أم لا؟».

قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: «لا يبرك كما يبرك البعير»، والبعير إذا برك بدأ بيَدَيه قبل ركبتيه، وهذا النَّهْي لا يمانِعُ قوله: «وليضع يَدَيه قبل ركبتيه»، بل ينافيه. ويدلُّ على أنَّ هذه الزِّيادة غير محفوظةٍ، ولعلَّ لفظها انقلب على بعض الرِّواة.

أحدهما: ما رواه أبوداود، من حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يعتمد الرجل على يَدَيه في الصَّلاة». وفي لفظٍ: «نهى أن يعتمد الرَّجل على يَدَيْه إذا نَهَض في الصَّلاة».

الثَّاني: أنَّ المصلِّي في انحطاطه ينحطُّ منه إلى الأرض الأقرب إليها أوَّلًا، ثُمَّ الذي مِنْ فَوْقِهِ، ثُمَّ الذي مِنْ فَوْقِهِ، حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه، وهو وجهه، فإذا رفع رأسه من السُّجود ارتفع أعلى ما فيه أوَّلًا، ثُمَّ الذي دونه، ثُمَّ الذي دونه، حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه. والله أعلم.

 

فصْلٌ

قال أبوحُمَيْد السَّاعدي ـ وعشرة من الصَّحابة يسمعون كلامه ـ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصَّلاة اعتدل قائمًا، ورفع يَدَيه حتَّى يحاذي بهما مِنْكَبَيه، فإذا أراد أنْ يركع رفع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيه، ثُمَّ قال: «الله أكبر»، فركع ثُمَّ اعتدل، فلم يصوِّب رأسه ولم يُقْنِعه، ووضع يَدَيه على ركبتيه، ثُمَّ قال: «سمع الله لمن حمده»، ثُمَّ رفع واعتدل، حتى رجع كُلُّ عظمٍ في موضعه، معتدلًا، ثُمَّ هوى ساجدًا، وقال: «الله أكبر»، ثُمَّ جافى وفتح عضدَيْه عن بطنه، وفتح أصابع رِجْلَيه، ثُمَّ ثَنَى رِجْله اليُسْرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كُلُّ عظمٍ موضعه معتدلًا، ثُمَّ هَوَى ساجدًا، وقال: «الله أكبر»، ثم ثَنَى رجله وقعد عليها، حتى يرجع كُلُّ عضوٍ إلى موضعه، ثُمَّ نَهَض فصنع في الركعة الثَّانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السَّجْدَتين كبَّر ورَفَع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيْه، كما صَنَع حين افتتح الصَّلاة، ثُمَّ صنع كذلك، حتى إذا كانت الرَّكعة التي تنقضي فيها الصَّلاة أخَّر رِجْلَه اليُسرى، وقعد على شِقِّه متورِّكًا، ثُمَّ سلَّم».

وربَّما قال: «اللَّهم لك سجدتُّ، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للَّذي خلقه، وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين».

وكان يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك، لا إله إلَّا أنت».

وكان يقول: «اللَّهم اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وأوَّله وآخره، وعلانيته وسِرَّه».

وكان يجعل سجوده مناسبًا لقِيامه، ثُمَّ يرفع رأسه قائلًا: «الله أكبر»، غير رافعٍ يَدَيه، ثُمَّ يفرش رِجْله اليُسرى، ويجلس عليها، وينصب اليُمْنى، ويضع يَدَيه على فخذيه، ثُمَّ يقول: «اللَّهُم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني». وفي لفظٍ: «وعافني» بدل: «واجبرني». هذا حديث ابن عباس. وقال حذيفة: كان يقول بين السَّجدَتَين: «ربِّ اغفر لي». والحديثان في «السُّنن».

ثُمَّ يكبِّر ويسجد، غير رافع يَدَيه، ويصنع في الثَّانية كما صنع في الأولى، ثُمَّ يرفع رأسه مكبِّرًا، وينهض على صدور قَدَمَيه، معتمدًا على رُكْبَتيه وفَخِذيه.

أحدهما: أنَّ فيه جمعًا بينه وبين حديث وائل بن حجر، وأبي هريرة: «أنَّه كان ينهض على صدور قدميه».

ولم يكن يرفع يَدَيه في هذا القيام. وكان إذا اسْتَتَمَّ قائمًا أخذ في القراءة، ولم يسكت، وافتتح قراءته بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فإذا جلس في التَّشهد الأول جلس مفترشًا كما يجلس بين السَّجدتين، ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، كهيئة الحلقة، وجعل بصره إلى موضع إشارته، وكان يرفع إصبعه السَّبَّابة ويحنيها قليلًا، يوحِّدُ بها ربَّه - عز وجل -.

ثُمَّ كان يقول: «التَّحيَّات لله والصَّلوات والطَّيبات، السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله».

ورَوَى ابن عمر عنه: «التَّحيَّات لله الصَّلوات الطَّيِّبات». وفيه أنواع أُخَر، كُلُّها جائزةٌ.

وكان إذا قَنَت لقومٍ أو على قومٍ يجعل قنوتَه في الرَّكعة الأخيرة، بعد رفع رأسه من الرُّكوع، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصُّبح.

فهؤلاء أعلم النَّاس بأنسٍ قد حَكَوا عنه أنَّ قنوته كان بعد الركوع، وحُمَيدٌ هو الذي روى عن أنسٍ أنَّه سُئِل عن القُنُوت فقال: «كُنَّا نقنت قبل الركوع وبعده». والمراد بهذا القُنُوت طول القيام.

وقال ابن عمر: إنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللَّهمَّ العن فلانًا وفلانًا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد». فقد اتَّفقت الأحاديث أنَّه قَنَت بعد الركوع، وأنَّه قَنَت لعارضٍ، ثُمَّ تَرَكه.

وقال البراء: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الفجر والمغرب». رواه مسلمٌ.

وقال ابن عباسٍ: «قَنَت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا، في الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح، في دُبُر كُلِّ صلاةٍ، إذا قال: «سمع الله لمن حمده» من الرَّكعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيمٍ، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه». ذكره أحمد، وأبوداود.

وفي «صحيح مسلمٍ»، عن أنسٍ: «قَنَت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثُمَّ تَرَكه». وعند الإمام أحمد: «قَنَت شهرًا ثُمَّ تَرَكه».

ورواه النَّسائي، ولفظه: «صلَّيْتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف أبي بكرٍ فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عمر فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عثمان فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عليٍّ فلم يقنت»، ثُمَّ قال: «يا بُنَيَّ، بِدْعةٌ!».فمَنْ كره القُنُوت في الفجر احتجَّ بهذه الأحاديث، وبقول أنسٍ: «ثُمَّ تَرَكه».

قال أبوداود الطَّيالسي: حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء عن أبي مغفل: «أنَّه قنت في الفجر قبل الركوع».

وذكر أبوبكر ابن المنذر عن عمر بن عبدالعزيز: أنَّه كان يقنت قبل الركوع.

ومن استحبَّه بعد الرَّكوع فذهب إلى الأحاديث التي صرَّحَت بأنَّه بعد الركوع، وهي صِحاحٌ كُلُّها.

قلتُ: هشام عن قتادة عن أنسٍ: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَت بعد الركوع»، والتَّيمي عن أبي مجلز عن أنس: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَت بعد الرُّكوع»، وأيُّوب عن محمَّدٍ قال: سألتُ أنسًا، وحنظلة السَّدوسي عن أنس، أربعة وجوهٍ.

قلتُ لأبي عبدالله: فلِمَ ترخِّصُ إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنَّما صحَّ الحديث بعد الركوع؟

وقال عبدالله بن أحمد: سألتُ أبي عن القُنُوت في أيِّ صلاةٍ؟ قال: في الوتر بعد الرُّكوع، فإنْ قَنَت رجلٌ في الفجر، اتِّباع ما روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَنَت دعاءً للمستضعفين فلا بأس، فإنْ قَنَت رجلٌ بالنَّاس، يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس.

وقال الأثرم: سألتُ أبا عبدالله عن القنوت في الفجر، فقال: نعم، في الأمر يحدث، كما قَنَت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قومٍ. قلتُ له: ويرفع صوته؟ قال: نعم، ويؤمِّن مَنْ خلفه، كذلك فعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: وسمعت أبا عبدالله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع.

وقال عبدوس بن مالك العطَّار: سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل فقلت: إنِّي رجلٌ غريبٌ من أهل البصرة، وإنَّ قومًا قد اختلفوا عندنا في أشياء، وأحبُّ أنْ أعلم رأيك فيما اختلفوا فيه. قال: سَلْ عمَّا أحببت، قلتُ: فإنَّ بالبصرة قومًا يقنتون، كيف ترى في الصَّلاة خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلُّون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت، فإنْ زاد في القنوت حرفًا، أو دعا بمثل «إنَّا نستعينك»، أو «عذابك الجد»، أو «نحفد». فإنْ كنتَ في الصَّلاة فاقطعها.

 

فصْلٌ

وأَمَرَهم أنْ يتعوَّذُوا بالله من عذاب النَّار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال. وعَلَّم الصِّديِّق أنْ يدعو في صلاته: «اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، فاغفرلي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم».

ثُمَّ كان يسلِّم عن يمينه: «السَّلام عليكم ورحمة الله»، وعن يساره: «السَّلام عليكم ورحمة الله». وروى ذلك خمسة عشر صحابيًّا.

وشَرَع لأمته التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير عقيب الصلاة.

وروى عنه النَّسائي، من حديث أبي هريرة أنَّه قال: «من قرأ آية الكرسي عقيب كُلَّ صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجِنَّة إلَّا أنْ يموت».

ولم يُنْقَل عنه أنَّه كان يُصَلِّي قبل العصر حديثٌ صحيحٌ. وفي «السُّنن»، عنه أنَّه قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا».

وكان يصلِّي من اللَّيل عشر ركعاتٍ، وربما صلَّى اثنتي عشرة ركعة، ويوتر بواحدة. فهذه أربعون ركعة، كانت وِرْده دائمًا، الفرائضُ وسننُها، وقيام اللَّيل والوتر.


الصلاة - ط عطاءات العلم (1/ 289 - 447)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله