حكمة خلق الأضداد والأغيار

وقد تقرَّر أنَّ اللَّه سبحانه كامل الصفات، له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم. وهو سبحانه خلقَ عبادَه على الفطرة، وكل مولود فإنّما يولد على الفطرة التي فُطِرَ الخلائق عليها، ولكنَّ الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم عن الفطرة، ويَعدِلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرَها، ولكن أخرجوهم عن سَنَنِ الحنيفية وأفسدوا فِطَرهم وقلوبهم. وهكذا بالأضداد والأغيار يخرُج بعض المخلوقات عن سَنَن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولود في فطرته، ولذلك أمثلة:

المثال الأوَّل: أنَّ الماءَ خلقه اللَّه في الأصل طاهرًا مطهِّرًا، فلو تُرِكَ على حالته التي خُلِقَ عليها ولم يخالطه ما يزيلُ طهارته لم يكن إلا طاهرًا، ولكن بمخالطته أضدادَه من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلق عليها. فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمنزلة أبوي الطفل وكافليه الذين يهودونه وينصرونه ويمجسونه ويشرِّكونه. وكما أنَّ الماءَ إذا فسدَ بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فِطَرُها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس.

المثال الثاني: الشرابُ المعتصَرُ من العنب، فإنَّه طيِّب يصلح للدواءِ ولإصلاح الغذاءِ وللمنافع التي يصلح لها. ولو خُلِّيَ على حاله لم يكن إلا طاهرًا طيِّبًا، ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرًا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصارَ أخبثَ شيءٍ وأنجسه. فلو انقلبَ خلًّا، أو زالَ تغيُّر الماءِ، كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإنَّ الحكمَ إذا ثبتَ لعلَّة زال بزوالها.

المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطنَ الحيوانِ واستقرَّت هناك خرجت عن حالتها التي خُلِقَتْ عليها، واكتسبَتْ بهذه المخالطة والمجاورةِ خبثًا وفسادًا لم يكن فيها، لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها.

ولمَّا أنزلَ اللَّهُ سبحانه الماءَ طاهرًا نافعًا، فمازج الأرضَ، وسالت به أوديتها، أوجدَ -جل جلالُه- بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواعَ الثمارِ والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات، وأوجدَ مع ذلك المُرَّ والشوكَ والحنظلَ وغيرَ ذلك. واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة. قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد/ 4].

ثمَّ إنَّه سبحانه يُصرف ما أخرجه من هذا الماءِ، ويُقلِّبه، ويحيل بعضَه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى. وهذا كما خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ، ثمَّ خالفَ بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما تصلح له، وأمشى بعضها على بطنه، وبعضها على رجلين، وبعضها على أربع؛ حكمة بالغة، وقدرة باهرة.

وكذلك سبحانه يقلِّب الليل والتهار، ويقلِّب ما يوجد فيهما، ويقلِّب أحوال العالم كما يشاء، ويسلك بذلك كلَّه مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده، ويظهر ملكه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/ 54].

وهذا القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب جل جلاله وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعلائه وحكمته وإبداع صَنعه، والتقدّمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كلّه. وكان من تمام ذلك الإخبارُ عن الكافرين والمكذّبين، وذكرُ ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسلات ربهم، ووصفُ كفرهم وعنادهم وكيف كذَبوا على اللَّه، وكذبوا رسلَه، وردّوا أمره ونصائحه. وكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهد الحقّ، وقيامُ أدلته، وتنوّعُها.

وكان موقع هذا من خلقه موقعَ تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناءِ عليه، فإن أسماءَه تعالى الحسنى وصفاته العلى هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عمّا وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضادّه ويخالفه. ولهذا كان تسبيحُه تعالى من تمام حمده، وحمدُه من تمام تسبيحه؛ ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين. فكان ما نسبه إليه أعداؤه والمعطّلون لصفات كماله -من علّوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلّم به على رسله وغير ذلك من صفات كلامه- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك مما نزّه عنه نفسَه وسبّح به نفسَه. وكان في ذلك ظهورُ حمده لخلقه، وتنوّعُ أسبابه، وكثرةُ شواهده، وسعةُ طرق الثناءِ عليه به، وتقريرُ عظمته ومعرفته في قلوب عباده. فلولا معرفةُ الأسباب التي يسبّح وينزه ويتعالى عنها، وخَلْقُ مَن يضيفها إِليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أيّ شيء يسبّحونه وعمّا ذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه مَن قد نسبه إلى ما لا يليق به، وجحد من كماله ما هو أولى به، سبّحوه حينئذ تسبيحَ مُجِل له، مُعظِّمٍ له، منزِّهٍ له عن أمرٍ قد نسبه إليه أَعداؤه والمعطّلون لصفاته.

ونظير هذا اشتمال كلمة الإسلام -وهي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه- على النفي والإثبات. فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يُقصد بنفي الإلهيّة عن كلّ من ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى. فتجريدُ هذا التوحيد من العقد واللسان بتصوّر إثبات الإلهيّة لغير اللَّه -كما قاله أعداؤه المشركون- ونفيُه وإبطالُه من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله، وتقريره، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه.

ونظير ذلك أيضًا أنّ تكذيَب أعداءِ الرسل لهم وردَّهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجِبة ظهورَ براهينِ صدقِ الرسل، ودفعَ ما احتجّ به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة، ودحضَ حججهم الباطلة، وتقريرَ طرق الرسالة، وإيضاحَ أدلتها. فإنّ الباطل كلّما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجهُ الحقّ، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وتقررت براهينه. فكسرُ الباطل ودحضُ حججه وإقامةُ الدليل على بطلانه من أدلّة الحق وبراهينه.

فتأمّلْ كيف اقتضى الحقُ وجودَ الباطل، وكيف تمّ ظهورُ الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفرُ أعداءِ الرسل بهم وتكذيبُهم لهم ودفعهُم ماجاؤوا به هو من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات اللَّه، وقيام حججه على العباد.

ولنضربْ لذلك مثالًا يتبيّن به، وهو: ملِكٌ له عبدٌ قد توحّد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدِّق ومكذب. فمِن قائلِ: هو كذلك، ومِن قائلٍ: هو بخلاف ما يظَنّ به، فإنّه لم يقابل الشجعان، ولا واجه الأقران. ولو نازل الأقران، وقابل الشجعان، لظهر أمرُه، وانكشف حالُه. فسمع به شجعانُ العالم وأبطالُهم، فقصدوه من كلّ أوب، وأمّوه من كلّ قطر، فأراد الملك أن يُظهر لرعّيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن تلك الشجعان والأبطال من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم وإيّاه، وشأنكم به. فهل تسليطُ الملِك لأولئك على عبده ومملوكه إلّا لإعلاءِ شأنه، وإظهار شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به؟

وكما يترتّب على هذا إظهارُ شجاعة عبده وقوّته، وحصولُ مقصوده بذلك؛ فكذلك يترتَّب عليه ظهورُ كذبِ من ادعَّى مقاومته وظهورُ عجزهم، وفضيحتهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمّات الملِك وحوائجه. فإذا عدَل بهم عن مهمّاته وولاياته وعدَل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرّفه في ملكه، وأنّه لو استعملهم في تلك المهمّات لتشوّش أمرُ المملكة، وحصل الخلل والفساد. فاللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته، وهو أعلم بالشاكرين.

والمقصود أنّ خلقَ الأسباب المضادّةِ للحقّ وإظهارها في مقابلة الحق من أبيَن دلالاتِه وشواهدِه، فَكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها تلك الحكمةُ، وهي أحبُّ إلى اللَّه تعالى من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. واللَّه أعلم.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 303 - 310)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله