والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا.
فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله.
فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى.
فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه: قوي المانع.
فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه: قوي المانع من القبول جدا.
فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - = ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهمّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه، وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى.
ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد؛ فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه.
وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى؛ فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والأمراء.
هذا؛ وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة تخالفها، ولم يقاتلهم، وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفا ورحمة وإحسانا، وجاء مكملا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتا لهم بقبائحهم، ومناديا على فضائحهم، ومخرجا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائما في سفال.
فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟! وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى!
وهذا السبب -وحده- كاف في رد الحق؛ فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمآكل كما تقدم؟!
وقد قال المسور بن مخرمة -وهو ابن أخت أبي جهل- لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال! يا ابن أختي! والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط. قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟! قال: يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي. فمتى ندرك مثل هذه!!
وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟!
وأما اليهود؛ فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة. قال: هل تدري عم كان إسلام أسد وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد؟ -لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك-، فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا. والله ما رأينا (رجلا يصلي) خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاعا من تمر، أو مدين من شعير. فنخرجه، ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي. فوالله ما يقوم من مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة.
فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه، فقال: يا معشر يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟
قالوا: أنت أعلم! قال: فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره. فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج يا معشر اليهود؛ فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه، ثم مات.
فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية -وكانوا شبانا أحداثا-: يا معشر اليهود، والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى والله، إنه لصفته، ثم نزلوا وأسلموا وخلوا أموالهم وأهليهم.
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - ط عطاءات العلم (1/ 39 - 43)