وقال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل/ 2].
وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها، وكمال الروح بهاتين الصفتين: بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم والاهتداء بما بعثوا به، وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة. فإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام والبحوث؛ فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام؛ ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال، ويميز النقد الذي عليه سكة المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه من النقد الذي عليه سكة جنكيز خان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة. وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم فهذه الأثمان كلها زيوف، لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها، بل ترد على عاملها أحوج ما يكون إليها، وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى إليها فجعلها هباء منثورا، ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف/ 103، 104].
وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل، أو على غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال أو الانتصار لهم، وفهم ما قالوه وبثه في المجالس والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفحا.
ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة. وأما تجريد اتباعه وتحكيمه، واستفراغ قوى النفس في طلبه وفهمه، وعرض آراء الرجال عليه، ورد ما يخالفه منها، وقبول ما وافقه ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة= فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه، فضلا عن أن يكون آخيته ومطلوبه، وهذا الذي لا ينجي سواه، فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم، واستفرغ فيه قواه، واستنفد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه، والطريق بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسدود، وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والإنابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود. قد طاف عمره كله على أبواب المذاهب، فلم يفز إلا بأخس المطالب! ـ إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها. تربى فيه الصغير، وهرم عليه الكبير، فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تنافس فيها المتنافسون، وهيهات! أين الظلام من الضياء! وأين الثرى من كواكب الجوزاء! وأين الحرور من الظلال! وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أهل الشمال! وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم! وأين العلم الذي سنده محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبرائيل - عليه السلام - عن رب العالمين سبحانه وتعالى إلى الخرص الذي سنده شيوخ أهل الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين! بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم إليها في موارد النزاع! وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر إلى النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر!
وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسماوات!
لقد استبان ـ والله ـ الصبح لمن له عينان ناظرتان، وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيتان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات، فأطفأت مصابيحها. وتحكمت فيها أيدي الشهوات، فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها. وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منفذا. وتمكنت فيها أسقام الجهل والتخبيط؛ فلم تنتفع معها بصالح الغذاء. واعجبا! جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع. واعجبا لها! كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ منها والصواب، وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب، فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من مشكاة السنة والقرآن، ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان!
فسبحان الله! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر، وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر! قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعت أعلامه بين أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها.
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلات؛ فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين. نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام. وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: ما لك عندنا من عبور، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز! أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان. حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول، تمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور تميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه، {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر/ 47]، وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه، فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا، ويا عظم المصيبة عندما تتبين بوارق آماله وأمانيه خلبا غرورا!
فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر؟ وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر؟ أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ينجو غدا بآراء الرجال، أو يتخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال، أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال، أو بالشطحات والإشارات وأنواع الخيال؟ هيهات! والله لقد ظن أكذب الظن، ومنته نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره، وتزود التقوى، وأتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من التوحيد واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والله سميع عليم.
اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 76 -83 ط عطاءات العلم)