وأمّا الكلمات التي تروى عن بعضهم: من التّزهيد في العلم، والاستغناء عنه، كقول من قال: نحن نأخذ علمنا عن الحيِّ الذي لا يموت، وأنتم تأخذونه عن حيٍّ يموت.
وقول آخر ــ وقد قيل له: ألا ترحل حتّى تسمع من عبد الرّزّاق ــ فقال: ما يَصنع بالسّماع من عبد الرّزّاق من يسمع من الخلّاق؟
وقول آخر: العلم حجابٌ بين القلب وبين الله عزّ وجلّ.
وقال آخر: إذا رأيت الصوفي يشتغل بـ «أخبرنا» و «حدثنا» فاغسِلْ يدك منه.
وقول آخر: لنا علم الخِرَق، ولكم علم الورق.
ونحو هذا من الكلمات التي أحسنُ أحوالِ قائلها: أن يكون جاهلًا يُعذَر بجهله، أو شاطحًا معترفًا بشَطْحه. وإلّا فلولا عبد الرّزّاق وأمثاله، ولولا «أخبرنا» و «حدّثنا» لَمَا وصل إلى هذا وأمثاله شيءٌ من الإسلام. ومن أحالك على غير «أخبرنا» و «حدّثنا» فقد أحالك: إمّا على خيال صوفيٍّ، أو قياس فلسفيٍّ، أو رأي نفسيٍّ. فليس بعد القرآن و «أخبرنا» و «حدّثنا» إلّا شبهات المتكلِّمين، وآراء المتخرصين، وخيالات المتصوِّفين، وقياسات المتفلسفين.
ومن فارق الدّليلَ ضلَّ عن سواء السّبيل، ولا دليلَ إلى الله والجنّة سوى الكتاب والسُّنّة، وكلُّ طريقٍ لم يَصحَبْها دليل السُّنّة والقرآن فهي من طرق الجحيم والشّيطان.
والعلم ما قام عليه الدّليل، والنّافع ما جاء به الرّسول. والعلم خيرٌ من الحال:
العلم حاكمٌ، والحال محكومٌ عليه.
العلم هادٍ، والحال تابعٌ.
العلم آمرٌ ناهٍ، والحال منفِّذٌ قابلٌ.
والحال سيفٌ، إن لم يصحبه علمٌ فهو مِخراقٌ في يدِ لاعبٍ.
الحال مركوبٌ لا يُجارى، فإن لم يصحبه علمٌ ألقى صاحبه في المهالك والمتالف.
الحال بلا علمٍ كالسُّلطان الذي لا يَزَعُه عن سطوته وازعٌ.
الحال بلا علمٍ كالنّار التي لا سائسَ لها.
والحال كالمال يُؤتاه البرُّ والفاجر، فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالًا على صاحبه.
نفع الحال لا يتعدّى صاحبه، ونفعُ العلم كالغيث يقع على الظِّراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشّجر.
دائرة العلم تسَعُ الدُّنيا والآخرة، ودائرة الحال تَضِيق عن غير صاحبه، وربّما ضاقت عنه.
العلم هادٍ، والحال الصّحيح مهتدٍ به. وهو ترِكة الأنبياء وتُراثهم، وأهله عصبتهم وورّاثهم. وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصُّدور، ورياض العقول، ولذّة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيِّرين.
وهو الميزان الذي به تُوزن الأقوال والأعمال والأحوال.
وهو الحاكم المفرِّق بين الشّكِّ واليقين، والغيِّ والرّشاد، والهدى والضّلال.
به يُعرف الله ويُعبد، ويذكر ويُوحَّد، ويُحمد ويمجَّد. وبه اهتدى إليه السّالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون.
به تُعرف الشّرائع والأحكام، ويتميّز الحلال من الحرام، وبه تُوصَل الأرحام، وبه تُعرف مَراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يُوصل إليه من قريبٍ.
وهو إمامٌ، والعمل مأمومٌ. وقائدٌ، والعمل تابعٌ.
وهو الصّاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشُّبهة. والغِنى الذي لا فقْرَ على من ظفِرَ بكنزه، والكَنَف الذي لا ضيعةَ على من أَوى إلى حِرْزه.
مذاكرته تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وطلبه قُربةٌ، وبذله صدقةٌ، ومدارسته تَعدِل بالصِّيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشّراب والطّعام.
قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: النّاس إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطّعام والشّراب، لأنّ الرّجل يحتاج إلى الطّعام والشّراب في اليوم مرّةً أو مرّتين، وحاجته إلى العلم بعددِ أنفاسه.
وروِّينا عن الشّافعيِّ - رضي الله عنه - أنّه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة.
ونصّ على ذلك أبو حنيفة - رحمه الله -.
وقال ابن وهبٍ - رحمه الله -: كنت بين يدي مالكٍ - رضي الله عنه -، فوضعتُ ألواحي وقمتُ أصلِّي، فقال: ما الذي قمتَ إليه بأفضلَ ممّا قمتَ عنه. ذكره ابن عبد البرِّ وغيره.
واستشهد الله عزّ وجلّ بأهل العلم على أجلِّ مشهودٍ به وهو التّوحيد، وقرنَ شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وفي ضمنِ ذلك تعديلُهم، فإنّه لا يستشهد بمجروحٍ. ومن هاهنا ــ والله أعلم ــ يُؤخذ الحديث المعروف «يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وتأويل المبطلين».
وهو حجّة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى جنّته، ومُدنِيهم من كرامته.
ويكفي في شرفه: أنّ فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأنّ الملائكة تضع لهم أجنحتها، وتُظِلُّهم بها، وأنّ العالم يستغفر له من في السّماوات ومن في الأرض، حتّى الحيتان في البحر، وحتّى النملة في جُحْرها، وأنّ الله وملائكته يصلُّون على معلِّمِ النّاسِ الخيرَ.
ولقد رحل كليم الرّحمن موسى بن عمران عليه السّلام في طلب العلم هو وفتاه، حتّى مَسَّهم النَّصَبُ في سفرهم في طلب العلم، حتّى ظفر بثلاث مسائل. وهو أكرم الخلق على الله وأعلمهم به.
وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وحرّم الله صيد الجوارح الجاهلة، وإنّما أباح للأمّة صيد الجوارح العالمة. فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يُجدِي عليه صيدُها من الأعمال شيئًا.
مدارج السالكين (3/ 278 – 284 ط عطاءات العلم)