مناظرةِ إبليس في شأن آدَمَ وإبائهِ من السجود له وبيان فسادِها

فصل في ذكر مناظرةِ إبليس عدوِّ الله في شأن آدَمَ، وإبائهِ من السجود له، وبيان فسادِها

وقد كرَّر اللهُ تعالى ذكرَها في كتابهِ، وأخبرَ فيها أنَّ امتناعَ إبليسَ من السُّجود كان كِبْرًا منه وكفراً، ومُجَرَّدَ إباء، وإنما ذكر تلك الشبْهَةَ تعنّتاً، وإلا فسببُ معصيتِهِ الاستكبارُ والإباءُ والكفر، وإلاّ فليس في أمرهِ بالسجودِ لآدَمَ ما يناقِصُ الحكمةَ بوجهٍ.

وأما شبهتهُ الدَّاحِضَةُ وهي: أن أصلَهُ وعنصرَهُ النارُ، وأصلَ آدم وعنصرَه التُّرابُ، ورتَّب على ذلك أنه خَيْرٌ من آدَمَ، ثم رتَّبَ على هاتينِ المقدمتينِ أنه لا يحسنُ منه الخضوعُ لمن هو فوقَهُ وخيرٌ منة؛ فهي باطلةٌ من وجوهٍ عديدة:

أحدها: أن دعواه كونهُ خيرًا من آدَمَ دعوى كاذِبَةٌ باطلةٌ، واستدلالُه عليها بكونهِ: مخلوقاً من نار وآدَمُ من طين، استدلالٌ باطلٌ، وليست النار خيرًا من: الطِّينِ والترابِ، بل التُّراب خيرٌ من النار، وأفضلُ عنصرًا من وجوه:

أحدها: أن النّارَ: طبعُها الفسادُ وإتلاف ما تعلَّقتْ به، بخلاف التُّرابِ.

الثاني: أن طبعَها الخِفَّةُ والحدَّةُ والطيْشِ، والتُّرابُ طبعُهُ الرَّزَانَةُ والسكونُ والثَّبَاتُ.

الثالث: أن الترابَ يتكوَّنُ فيه ومنه أرزاقُ الحيوان وأقواتُهم، ولباسُ العبادِ وزينتُهم، وآلاتُ معايشِهم ومساكِنِهم، والنارُ لا يتكوَّنُ فيها شيءٌ من ذلك.

الرابع: أن  التُّرابَ ضَرُورِيّ للحيوانِ لا يستغني عنه ألبَتةَ، ولا عن ما يتكوَّنُ فيه ومنه، والنّارُ يستغني عنها الحيوان البهيمُ مطلقاً، وقد يستغني عنها الإنسانُ الأيامَ والشهورَ، فلا تدعوه إليها الضَّرُورةُ، فأين انتفاعُ الحيوانِ كلِّه بالتُّرابِ إلى انتفاعِ الإنسانِ بالنّارِ في بعضِ الأحيانِ.

الخامس: أن التُّرَابَ إذا وُضِعَ فيه القوت أخرجَهُ أضعافَ أضعافِ ما وُضِعَ فيه، فمن بَركَتِهِ يُؤَدي إليك ما تستوِدِعُه فيه مضاعَفاً، ولو استودعْتَهُ النارَ لخانَتْكَ وأَكَلَتْهُ، ولم تُبْقِ ولم تَذرْ.

السادس: أنَّ النارَ لا تقومُ بنفسِها، بل هي مفتقرةٌ إلى محلّ تقومُ به يكونُ حاملًا لها، والترابُ لا يفتقرُ إلى حامل فالترابُ أكملُ منها.

السابع: أن النارَ مفتقرةٌ إلى التُّراب، وليس بالتُّراب فقرٌ إليها، فإنَّ المَحَلَّ الذي تقومُ به النارُ لا يكون إلَّا مكوناً منَ التُّراب أو فيه، فهي الفقيرةُ إلى التُرَابِ، وهو الغنيُّ عنها.

الثامن: أن المادَّة الإبليسيَّةَ هى المارجُ من النار، وهو ضعيفٌ، يتلاعَب به الهوى، فيميلُ معه كيفما مالَ، ولهذا غَلَبَ الهوى على المخلوق منه فأسَرَهُ وقَهرَهُ، ولما كانت المادَّةُ الآدَمِيَّةُ الترابَ، وهو قويٌّ لا يذهب مع الهوى أينما ذهبَ، قَهرَ هواه وأسره، ورجع إلى ربِّهِ فاجتباه واصطفاه، فكان الهوى الذي مع المادَةِ الآدَمِيَّةِ عارِضا سريعَ الزَّوال فزالَ، وكان الثبات والرَّزانَةُ أصليًّا له فعادَ إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فرجَعَ كلّ من الأبوينِ إلى أصلِهِ وعُنْصرِهِ: آدَمُ، إلى أصلِه الطَّيِّبِ الشريفِ، واللَعِين إلى أصلِهِ الرَّديء.

التاسع: أن النارَ وإن حَصَلَ بها بعض المنفعةِ والمتاع، فالشرّ كامنٌ فيها لا يصدُّها عنّه إلَّا قَسْرُها وحَبْسها، ولولا القاسِرُ والحابسُ لها لأفسدتِ الحرْثَ والنسلَ، والتّرابُ فالخير والبِرُّ والبَرَكَةُ كامنٌ فيه، كلما أُثِيرَ وقُلِبَ ظهرتْ بَرَكَتُهُ وخيرُهُ وثَمَرَتُهُ، فأين أحدهما من الآخر؟!.

العاشر: أن الله تعالى أكْثَرَ ذكر الأرض في كتابِه، وأخبر عن منافعِها وخَلْقِها، وأنه جعلها مِهادًا وفراشاً، وبساطًا وقراراً، وكِفاتاً للأحياءِ والأمواتِ، ودعا عبادَهُ إلى التَّفَكّر فيها والنظر في آياتِها، وعجائِب ما أودعَ فيها، ولم يذكرِ النارَ إلَّا في معرض العقوبةِ والتخويف والعذابَ، إلَّا موضعًا أو موضعينِ ذكرها فيه بأنها تذكرةٌ ومتاع للمُقوِيْنَ، تذكرةٌ بنار الآخرة، ومتاعٌ لبعض أفرادِ الإنسان، وهم المُقْوُونَ النازلونَ بالقَوا، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافرُ تَمتع بالنار في منزله، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن؟!.

الحادىِ عشر: أن الله تعالى وصفَ الأرضَ بالبركةِ في غيرِ موضع من كتابهِ خصوصًا، وأخبر أنه باركَ فيها عمومًا، فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10] فهذه بركةٌ عامَّةٌ.

وأما البَرَكَةُ الخاصَّةُ ببعضها فكقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].

وأما النار؛ فلم يخبرْ أنه جعل فيها بَرَكَة أصلًا، بل المشهورُ أنها مُذْهِبَةٌ للبركات ماحقةٌ لها، فأين المبارَك في نفسِه المبارَك فيما وُضِع فيه، إلى مُزِيلِ البركةِ وما حِقِها؟!.

الثاني عشر: أنَّ الله تعالى جعلَ الأرضَ محلّ بيوتهِ التي يُذكَرُ فيها اسمه، ويسبَّحُ لها فيها بالغدوِّ والآصال عمومًا، وبيته الحرام الذي جعلَه قياماً للناسِ مباركاً وهدىً للعالمين خصوصًا، ولو لم يكنْ في الأرضِ إلَّا بيته الحرامُ لكفاها ذلك شَرَفًا وفضلًا على النار.

الثالث عشر: أنَّ اللهَ تعالى أوْدَعَ في الأرض من المنافع والمعادنِ، والأنّهارِ والعيونِ، والثمراتِ والحبوبِ، والأقواتِ، وأصنافَ الحيواناتِ وأمتعتِها، والجبال والجنان والرياض، والمراكبِ البَهيَّةِ والصُّورِ البهيجة، ما لم يودعْ في النار شيئًا منه، فأيّ روضةٍ وُجِدَت في النّار، أو جَنَّةٍ أو معدِن، أو صورَة أو عيْنٍ فوّارةٍ، أو نهير مطَّرِدٍ أو ثَمَرَة لذيذة، أو زوجة حسنةٍ أو لباسٍ وسترة.

الرابع عشر: أن غايةَ النار أنها وضعتُ خادمةً لما في الأرض، فالنارُ إنما محلُّها محلُّ الخادمِ لهذه الأشياءِ المكمِّلِ لها، فهي تابعةٌ لها خادمةٌ فقط، إذا استغنتْ عنها طَرَدَتْها وأبْعَدَتْها عن قربها، وإذا احتاجتْ إليها استَدعَتها استدعاءَ المخدومِ لخادِمِه ومن يقضي حوائِجَهُ.

الخامس عشر: أن اللَّعينَ لقصورِ نظرِهِ وضعف بصيرتِهِ، رأى صورة الطين ترابًا ممتزجاً بماء فاحتقرَهُ، ولم يعلمْ أن الطِّين مُركَّبٌ من أصلين: الماءُ الذي جعل اللهُ منه كلَّ شْيءٍ حيّ، والترابُ الذي جعله خزانَةَ المنافع والنعَمِ، هذا وكم يجيء من الطينِ من المنافعِ وأنواعِ الأمتعةِ، فلو تجاوَز نظرُه صورةَ الطِّين إلى مادَّته ونهايته لَرَأى أنه خيرٌ من النار وأفضل.

وإذا استقريْتَ الوجوهَ التي تدلُّكَ على أن الترابَ أفضلُ من النارِ وخيرٌ منها وجدتَها كثيرةً جدًا، وإنما أشرنا إليها إشارةً، ثم لو سُلّم بطريقِ الفَرْض الباطل أن النارَ خيرٌ من الطين، لم يلزم من ذلك أن يكونَ المخلوقُ منها خيرًا من المخلوق من الطين، فإنَّ القادرَ على كلِّ شيء يخلُقُ من المادَّةِ المفضولَة مَنْ هو خيرٌ ممن خَلَقَهُ من المادَّة الفاضلة، والاعتبار بكمالِ النهايةِ لا بنقْصِ المادَّةِ، فاللعين لم يتجاوزْ نظرهُ محلَّ المادة، ولم يعبُر منها إلىَ كمالِ الصُّورةِ ونهايةِ الخِلْقَةِ، فأين الماء المَهينُ الذي هو نطفة، ونقصُه واستقذارُ النفوس له إلى كمالِ الصّورةِ الإنسانيةِ التامَّةِ المحاسنِ خَلْقًا وخُلُقاً.

وقد خلق اللهُ -تعالى- الملائكةَ من نورٍ وآدَمَ من تراب، ومن ذريةِ آدمَ من هو خيرٌ من الملائكة، وإن كان النورُ أفضلَ من التُّراب.

فهذا وأمثالُه مما يدلُّك على ضعفِ مناظرةِ اللَّعينِ وفسادِ نظره وإدراكِهِ، وأن الحكمةَ كانت توجبُ عليه خضوعَه لآدَمَ فعارضَ حكمةَ الله وأمْرهُ برأيِهِ الباطلِ ونظرِه الفاسِدِ، فقياسهُ باطلٌ نصًا وعقلاً، وكلُ من عارَضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ، فهو من خلفائِهِ وأتباعِهِ، فنعوذُ بالله من الخِذْلان، ونسألُهُ التوفيقَ والعصمةَ من هذا البلاء الذي ما رُمِيَ العبدُ بشرِّ منه، ولأن يَلْقَى اللهَ بذنوبِ الخلائقِ كلَّها ما خلا الإشراكَ به أسلمُ له من أن يلقى الله وقد عارَضَ نصوصَ أنبيائِهِ برأيه ورأيِ بني جنسِه.

وهلْ طرَدَ اللهُ إبليسَ ولعنه، وأحلَّ عليه سخطَه وغضبَه إلَّا حيث عارضَ النصَّ بالرأي والقياسِ ثم قدَّمه عليه؟! واللهُ يعلمُ أن شبْهةَ عدوِّ الله مع كونها داحضة باطلةً أقوى من كثيرٍ من شُبَهِ المعارضين لنصوص الأنبياءِ بآرائهم وعقولهم.

فالعالمُ يتدَبّر سِرَّ تكرير الله لهذه القصّةِ مَرَةً بعد مرَّة، وليحذرْ أن يكون له نصيبٌ من هذا الرأي والقياسِ وهو لا يشعرُ، فقد أقسمَ عدوُّ اللهِ أنه لَيُغوِيَنَّ بني آدمَ أجمعَينَ إلَّا المخلَصِين منهم، وصدَّق تعالى ظَنَّهُ عليهم، وأخبرَ أن المخْلَصِينَ لا سبيلَ له عليهم، والمخلَصُونَ هم الذين أخلصوا العبادةَ والمَحَبَّةَ والإجلالَ والطاعةَ لله، والمتابعة والانقياد لنصُوص الأنبياءِ، فيجرِّدُ عادةَ الله عن عبادة ما سواه، ويجرَدُ متابعةَ رسولهِ وترك ما خالفه لقولِهِ دونَ متابعةِ غيره، فليزن العاقلُ نفسَهُ بهذا الميزان قبل أن يوزنَ يومَ القدومِ على الله، واللهُ المستعان، وعليه التكْلان، ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله تعالى.


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (4/ 1554 - 1560)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله