الارتباط بين الأسماء والمسمّيات

 

وأمَّا استقبالُه صلى الله عليه وسلم الجبلين في طريقه، وهما: مُسْلِح ومُخْرِاء، وتركُ المرور بينهما، وعدلُ ذات اليمين؛ فليس هذا أيضًا من الطِّيَرة، وإنما هو من العدول عمَّا يؤذي النفوسَ ويُشَوِّشُ القلوبَ إلى ما هو بخلافه، كالعدول عن الاسم القبيح وتغييره بأحسنَ منه، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك بما فيه كفاية.

وأيضًا؛ فإنَّ الأماكنَ فيها الميمونُ المبارك والمشؤومُ المذموم، فاطَّلعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شؤم ذلك المكان، وأنه مكانُ سوء، فجاوزَه إلى غيره، كما جاوزَ الوادي الذي ناموا فيه عن الصُّبح إلى غيره، وقال: «هذا مكانٌ حَضَرَنا فيه الشيطان»، والشيطانُ يحبُّ الأمكنةَ المذمومة وينتابُها.

وأيضًا؛ فَلِمَا كان المرورُ بين ذينِكَ الجبلين قد يُشَوِّشُ القلب.

على أنَّا نقولُ في ذلك قولًا كلِّيًّا نبيِّنُ به سرَّ هذا الباب، بحول الله وعونه وتوفيقه:

اعلَم أنَّ بين الأسماء ومسمَّياتها ارتباطًا قدَّره العزيزُ العليم، وألهَمَه نفوسَ العباد، وجعَله في قلوبهم بحيث لا تنصرفُ عنه، وليس هذا الارتباطُ هو ارتباطَ العلَّة بمعلولها، ولا ارتباطَ المقتضي الوجوبَ لمقتضاه وموجَبه، بل ارتباط تناسُبٍ وتشاكُلٍ اقتضته حكمةُ الحكيم.

فقَلَّ أن ترى اسمًا قبيحًا إلا وبين مسمَّاه وبينه رابطٌ من القُبح، وكذلك إذا تأمَّلتَ الاسم الثقيلَ الذي تنفرُ عنه الأسماع، وتنبو عنه الطِّباع، فإنك تجدُ مسمَّاه يُقارِبُ أو يُلِمُّ أن يُطابِق.

ولهذا من المشهور على ألسنة الناس: أنَّ الألقابَ تنزلُ من السماء. فلا تكادُ تجدُ الاسمَ الشنيعَ القبيحَ إلا على مسمًّى يناسبُه.

وفي ذلك قولُ القائل:

وقَلَّ أنْ أبصَرَتْ عيناكَ ذا لَقَبٍ … إلا ومعناهُ إن فكَّرتَ في لَقَبِهْ

وهذا كثيرًا ما يوجدُ أيضًا في أسماء الأجناس.

والواضعُ له عنايةٌ بمطابقة الألفاظ للمعاني، ومناسبتها لها، فيجعلُ الحروفَ الهوائيَّة الخفيفةَ للمسمَّى المُشاكِل لها، كالهواء، والحروفَ الشَّديدة للمسمَّى المناسب لها، كالصَّخر والحَجَر، وإذا تتابعَت حركةُ المسمَّى تابَعوا بين حركة اللفظ، كالدَّوَران والغَلَيان والنَّزَوان، وإذا تكرَّرت الحركةُ كرَّروا اللفظ، كقَلْقَلَ وزَلْزَلَ ودَكْدَكَ وصَرْصَرَ، وإذا اكتَنزَ المسمَّى وتجمَّعت أجزاؤه جعَلوا في اسمه من الضَّمِّ الدالِّ على الجمع والاكتناز ما يناسبُ المسمَّى، كالبُحْتُر للقصير المجتمع الخَلْق، وإذا طالَ جعلوا في اسمه من الفتح الدالِّ على الامتداد نظيرَ ما في المعنى، كالعَشَنَّق للطَّويل. ونظائرُ ذلك أكثرُ من أن تُسْتَوعَب، وإنما أشرنا إليها أدنى إشارة.

وهذا هو الذي أراده من قال: بين الاسم والمسمَّى مناسبة، فلم يفهم عنه بعضُ المتأخِّرين مرادَه، فأخذ يشنِّعُ عليه بأنه لا تناسُبَ طبعِيًّا بينهما، واستدلَّ على إنكار ذلك بما لا طائل تحته؛ فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ التناسُبَ الذي بين الاسم والمسمَّى كالتناسُب الذي بين العلَّة والمعلول، وإنما هو ترجيحٌ وأولويَّةٌ تقتضي اختصاصَ الاسم بمسمَّاه، وقد يتخلَّف عنه اقتضاؤها كثيرًا.

والمقصود أنَّ هذه المناسبة تنضمُّ إلى ما جعل الله في طبائع الناس وغرائزهم من النُّفرة من الاسم القبيح المكروه، وكراهته، وتطيُّر أكثرهم به، وذلك يوجبُ عدمَ ملابسته ومجاوزته إلى غيره، فهذا أصلُ هذا الباب.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (3/ 1560 – 1563 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله