قاعدة جليلة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...)

 

قاعدة جليلة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

فتضمنت هذه الآيةُ أمورًا:

أحدُها: أن الحياة النافعة إنما تَحصُلُ بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تَحصُلْ له هذه الاستجابةُ فلا حياةَ له، وإن كانت له حياةٌ بهيميَّهٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذلِ الحيوانات.

فالحياةُ الحقيقيَّةُ الطيبةُ هي حياةُ من استجابَ لله والرسولِ ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء هم الأحياءُ وإن ماتوا، وغيرُهم أمواتٌ وإن كانوا أحياء الأبدانِ.

ولهذا كان أكملُ الناسِ حياةً أكملَهم استجابةً لدعوة الرسول؛ فإنَّ كلَّ ما دعا إليه ففيه الحياةُ، فمن فاتَه جزءٌ منه فاتَه جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسبِ ما استجابَ للرسول.

قال مجاهدٌ: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني: للحقِّ.

وقال قتادةُ: هو هذا القرآنُ، فيه الحياةُ والنجاةُ والعصمةُ في الدُّنيا والآخرة.

وقال السُّدِّيُّ: هو الإسلامُ؛ أحياهُم به بعد موتهم بالكفر.

وقال ابنُ إسحاق وعُروةُ بن الزبير -واللفظ لهُ-: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني: للحرب التي أعزَّكُمُ الله بها بعدَ الذُّلِّ، وقَوَّاكم بعد الضَّعْفِ، ومنعكم بها من عدُوِّكم بعد القهر منهم لكم.

وهذه كلُّها عباراتٌ عن حقيقةٍ واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسولُ ظاهرًا وباطنًا.

قال الواحديُّ : والأكثرون على أنَّ معنى قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}: هو الجهادُ، وهو قولُ ابن إسحاق واختيارُ أكثرِ أهل المعاني.

قال الفرَّاءُ : إذا دَعاكُم إلى إحياءِ أمركم بجهادِ عدوِّكُم. يريد أن أمرهم إنما يَقوَى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهادَ ضعُف أمرُهم، واجترأ عليهم عدوُّهم.

قلتُ: الجهادُ من أعظم ما يُحيِيْهم به في الدُّنيا وفي البرزخ وفي الآخرة: أما في الدُّنيا فإنَّ قوتَهم وقهرَهم لعدوِّهم بالجهاد. وأمَّا في البرزخ فقد قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وأمَّا في الآخرة فإن حظَّ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظمُ من حظِّ غيرهم.

ولهذا قال ابنُ قُتَيبة: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني الشهادة.

وقال بعضُ المفسِّرين: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ يعني الجنةَ؛ فإنَّها دارُ الحيوان، وفيها الحياةُ الدائمةُ الطيبةُ. حكاه أبو عليٍّ الجرجانيُّ.

والآيةُ تتناولُ هذا كلَّه؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد تُحيِي القلوب الحياة الطَّيِّبة، وكمالُ الحياة في الجنة، والرسولُ داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنَّة؛ فهو داعٍ إلى الحياة في الدُّنيا والآخرة.

والإنسانُ مضطرٌّ إلى نوعين من الحياة:

حياةُ بدنه التي بها يدرِك النافعَ والضارَّ ويُؤثِرُ ما ينفعُهُ على ما يضُرُّهُ، ومتى نقصَتْ فيه هذه الحياةُ ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياةُ المريض والمحزون وصاحبِ الهمِّ والغمِّ والخوفِ والفقر والذُّلِّ دون حياةِ من هو مُعافىً من ذلك.

وحياةُ قلبه وروحه التي بها يُميِّزُ بين الحقِّ والباطل والغَيِّ والرَّشاد والهدى والضلال، فيختارُ الحقَّ على ضدِّه، فتُفِيدُ هذه الحياةُ قوَّةَ التمييز بين النافع والضَّارِّ في العلوم والإرادات والأعمال، وتُفيدُهُ قوَّةَ الإيمان والإرادةِ والحبِّ للحقِّ، وقوةَ البغضِ والكراهةِ للباطل؛ فشعورُه وتمييزُه وحبُّه ونفرتُهُ بحسب نصيبه من هذه الحياة؛ كما أنَّ البدنَ الحيَّ يكونُ شعورُهُ وإحساسُهُ بالنافع والمؤلم أتمَّ، ويكونُ ميلُهُ إلى النافع ونفرتُهُ عن المؤلم أعظمَ؛ فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب؛ فإذا بَطلتْ حياتُه بطلَ تمييزُه، وإن كان له نوعُ تمييزٍ لم يكن فيه قوةٌ يُؤثِرُ بها النافعَ على الضَّارِّ.

كما أنَّ الإنسان لا حياةَ له حتى يَنفُخَ فيه الملَكُ -الذي هو رسولُ الله- من روحِه فيصيرَ حيًّا بذلك النفخ وكان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياةَ لروحه وقلبه حتى يَنفُخَ فيه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من الرُّوح الذي ألْقِي إليه؛ قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]؛ فأخبر أَنَّ وحيَهُ روحٌ ونورٌ.

فالحياةُ والاستنارةُ موقوفةٌ على نفخ الرسول المَلَكيِّ والرسول البشريِّ؛ فمن أصابه نفخُ الرسول الملكيِّ ونفخُ الرسول البشريِّ حصلتْ له الحياتانِ، ومن حصلَ له نفخُ الملَكِ دون نفخ الرسول حصلتْ له إحدى الحياتين وفاتتْه الأخرى.

قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فجَمعَ له بين النور والحياة؛ كما جَمعَ لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة.

قال ابنُ عباس وجميع المفسرين: كان كافرًا ضالًا فهديناه.

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يتضمن أمورًا:

أحدُها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظُّلمة؛ فمَثلُه ومَثَلُهم كمثل قوم أظلمَ عليهم الليلُ فضلُّوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نورٌ يمشي به في الطريق ويَراها ويَرى ما يَحذرُهُ فيها.

وثانيها: أنه يمشي فيهم بنورِه، فهم يَقتبِسُون منه لحاجتهم إلى النور.

وثالثها: أنه يمشي بنوره يومَ القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلماتِ شركهم ونفاقهم.

وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}.

المشهورُ في الآية أنه يَحُول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويَحُول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قولُ ابن عباسٍ وجمهور المفسرين.

وفي الآية قولٌ آخرُ: إن المعنى أنه سبحانه قريبٌ من قلبه، لا تخفَى عليه خافيةٌ؛ فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحديُّ عن قتادة. وكأنَّ هذا أنسبُ بالسياق؛ لأنَّ الاستجابة أصلها بالقلب؛ فلا تَنفعُ الاستجابة بالبدن دون القلب؛ فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه؛ فيعلم هل استجاب له قلبه؟ وهل أضمرَ ذلك أو أضمرَ خلافه؟

وعلى القول الأول فوجهُ المناسبة أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتُم عنها؛ فلا تَأمَنوا أن الله يَحُول بينكم وبين قلوبكم، فلا يُمكِّنكم بعد ذلك من الاستجابة؛ عقوبةً لكم على تركها بعدَ وضوح الحق واستبانتِه، فيكون كقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101]؛ ففي الآية تحذيرٌ عن تركِ الاستجابةِ بالقلب وإن استجابَ بالجوارح.

وفي الآية سرٌّ آخرُ، وهُو أنه جَمعَ لهم بين الشرع والأمر به -وهو الاستجابةُ- وبين القدر والإيمان به؛ فهي كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 55 - 56]. والله أعلم.


الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 127 - 132)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله