قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
ويُدعَى خصومُ اللَّه يومَ معادِهم … إلى النَّارِ طُرًّا فرقةُ القدريةِ
سواءٌ نفَوه أو سعَوا لِيخاصِمُوا … به اللَّهَ أو مارَوا به للشريعةِ
وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة: نفاته، وهم القدرية المجوسية. والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام/ 148] وهم القدرية المشركية. والمخاصمون به للربِّ، وهم أعداءُ اللَّه وخصومه، وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أوَّل من احتجَّ على اللَّه بالقدر فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] ولم يعترف بالذنب وَيُبؤْ به، كما اعترف به آدم. فمن أقرَّ بالذنب، وباءَ به، ونزِّه ربَّه، فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برَّأ نفسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدر فقد أشبَه إبليس.
ولا ريبَ أنَّ هؤلاء القدريِّة الإبليسية والمشركية شرٌّ من القدريَّة النفاة، لأنَّ النفاة إنَّما نفوه تنزيهًا للرب تعالى وتعظيمًا له أن يقدّر الذنب ثمَّ يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقِبَ العبد على ما لا صُنعَ للعبد فيه البتة، بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوَله ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية أنَّه حضرَ مجلسَ بعض الولاة فأتيَ بطرَّار أحوَل، فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر سوطًا. فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر: بل ينبغي أن يُضْرَب ثلاثين سوطًا: خمسة عشر لِطرِّه، ومثلها لِحَوَله. فقال الجبري: كيف يُضْرَب على الحَوَل، ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطرّ، ولا صنع له فيه عندك، فبُهِتَ الجبري.
وأمَّا القدرية الإبليسية والمشركية فكثيرٌ منهم منسلخ من الشرع، عدوٌّ للَّه ورسله، لا يُقِرّ بأمرٍ ولا نهي. وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال اللَّه فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام/ 148].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل/ 35].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف/ 20].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس/ 47].
فهذه أربعة مواضع في القرآن بيّن سبحانه فيها أنَّ الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.
طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 186 - 188)