من قواعد الشرع والحكمة أيضًا أنَّ من كَثُرَت حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنه يُحْتَمَلُ له ما لا يُحْتَمَلُ لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره؛ فإنَّ المعصية خَبَث، والماءُ إذا بلغ قلَّتين لم يحمل الخَبَث، بخلاف الماء القليل فإنه يَحْمِلُ أدنى خَبَثٍ يقعُ فيه.
ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمر: «وما يدريك لعلَّ الله اطلعَ على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم».
وهذا هو المانعُ له صلى الله عليه وسلم من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكبَ مثل ذلك الذَّنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهدَ بدرًا؛ فدلَّ على أنَّ مقتضي عقوبته قائمٌ لكنْ منع من ترتُّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السَّقْطةُ العظيمةُ مغتفرةً في جنب ما له من الحسنات.
ولمَّا حضَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأخرج عثمانُ رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة، قال: «ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِل بعدها».
وقال لطلحة لمَّا تطأطأ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى صعدَ على ظهره إلى الصخرة: «أَوْجَبَ طلحة».
وهذا موسى كليمُ الرحمن عز وجل: ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسَّرت، ولَطَمَ عينَ ملَك الموت ففَقأها، وعاتبَ ربَّه ليلة الإسراء في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال: «شابٌّ بُعِثَ بعدي يدخلُ الجنةَ من أمَّته أكثرُ ممن يدخلُها من أمَّتي»، وأخذَ بلحية هارون وجَرَّه إليه وهو نبيُّ الله، وكلُّ هذا لم يُنْقِص من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه تعالى يُكْرِمُه ويحبُّه؛ فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَّ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صَبَره، والأذى الذي أُوذِيَه في الله= أمرٌ لا تؤثِّرُ [فيه] أمثالُ هذه الأمور، ولا يُغَبَّرُ به في وجهه، ولا يخفضُ منزلتَه.
وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس مستقرٌّ في فِطَرهم: أنَّ من له ألوفٌ من الحسنات فإنه يُسامَحُ بالسيئة والسيئتين ونحوها، حتى إنه ليَخْتَلِجُ داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه، فيغلبُ داعي الشكر لداعي العقوبة، كما قيل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ … جاءت محاسنُه بألفِ شفيع
وقال آخر:
فإنْ يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا … فأفعالُه اللَّائي سَرَرْنَ كثيرُ
والله سبحانه يوازنُ يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فأيهما غَلَبَ كان التأثيرُ له، فيَفعَلُ مع أهل الحسنات الكثيرة الذين آثروا محابَّه ومَراضِيه وغلَبَتْهم دواعي طبعهم أحيانًا من العفو والمسامحة ما لا يفعلُه مع غيرهم.
وأيضًا؛ فإنَّ العالمَ إذا زلَّ فإنه يُحْسِنُ إسراعَ الفيئة وتداركَ الفارِط ومداواةَ الجرح، فهو كالطبيب الحاذق البصير بالمرض وأسبابه وعلاجه، فإنَّ زوالَه على يده أسرعُ من زواله على يد الجاهل.
وأيضًا؛ فإنَّ معه من معرفته بأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته منه، وإزرائه على نفسه بارتكابه، وإيمانه بأنَّ الله حرَّمه، وأنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ويأخذُ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للربِّ= ما يَغْمُرُ الذنب، ويُضْعِفُ اقتضاءه، ويزيلُ أثرَه، بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمةُ الخطيئة وقُبْحُها وآثارُها المُرْدِية، فلا سواءٌ هذا وهذا.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 504 - 508)