فائدة
اختلف النَّاس: هل السَّماءُ أشرفُ من الأرض، أم الأرض أشرف؟
فالأكثرون على الأوَّل، واحتجَّ من فضَّل الأرض: بأن الله أنشأ منها أنبياءَه وَرُسله وعبادَهُ المؤمنينَ، وبأنها مساكنهم ومحلُّهم أحياءً وأمواتًا، وبأنَّ الله سبحانه وتعالى لما أرادَ إظهار فضلِ آدَمَ للملائكة قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30] فأظهرَ فضله عليهم بعلمه واستخلافه في الأرض، وبأن الله -سبحانه- وصفَها بأن جعلها محلَّ بركاته عمومًا وخصوصًا، فقال: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا) [فصلت: 10]، ووصف الشامَ بالبَرَكة في ستِّ آيات، ووصف بعضَها بأنَّها مقدَّسة، ففيها الأرضُ المباركة والمقدسة والوادي المقدَّس، وفيها بيته الحرام ومشاعرُ الحجِّ والمساجد التي هي بيوته سبحانه، والطور الذي كلَّم عليه كليمَه ونجيَّه. وإقسامه سبحانه بالأرض عمومًا وخصوصًا أكثر من إقسامه بالسماء، فإنَّه أقسَم بالطُور والبلدِ الأمينِ والتينِ والزيتونِ، ولما أقسم بالسَّماء أقسَمَ بالأرض معها، وبأنه سبحانه خَلَقَها قبل خلق السماء كما دلَّت عليه سورة (حم السجدة) وبأنها مهبِطُ وحيه ومستقرُّ كتبه ورسله، ومحلُّ أحبِ الأعمال إليه، وهو الجهادُ والصَّدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومُغايظة أعدائه ونصر أوليائه، وليس في السماء من ذلك شيءٌ، وبأنَّ ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتَّقين أفضلُ من سكَّان السماء من الملائكة، كما هو مذهبُ أهل السنة، فمسكنُهم أشرف من مسكن الملائكة، وبأن ما أودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعادن والأقوات والحيوان والنبات مما هو من بركاتها لم يودَع في السَّماء مثلُه، وبأن الله سبحانه قال: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذاريات: 20] ثم قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات: 22] فجعل الأرضَ محلَّ آياته والسماءَ محلَّ رزقه، فلو لم يكن فيها إلَّا بيتُهُ وبيتُ خاتَم أنبيائه ورسله حيًا وميتًا، وبأن الأرض جعلها الله قرارًا وبساطًا ومهادًا وفراشًا، وكِفاتًا، ومادَّة للسَّاكن؛ لملابسه وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلائه، ولا سيَّما إذا أخرجتْ بَرَكَتَها وازَّيّنتْ وأنبتتْ من كلِّ زوجٍ بهيج.
قال المفضلون للسَّماء: يكفي في فضلها أن ربَّ العالمين سبحانه فيها. وأن عرشَهُ وكُرسِيَّهُ فيها، وأن الرفيقَ الأعلى الذي أُنعِم عليهم فيها، وأن دارَ كرامته فيها، وأنها مستقرُّ أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر، وأنها مُطَهَّرةٌ مُبرَّأَة من كلِّ شرٍّ وخَبَثٍ ودَنَس يكونُ في الأرض، ولهذا لا تُفتح أبوابها للأرواح الخبيثة، ولا تلجُ ملكوتَها، وبأنها مسكنُ من لا يَعْصُون اللهَ طرفةَ عين، فليس فيها موضعُ أربعٌ أصابعَ إلا ومَلَكٌ ساجدٌ أو قائمٌ، وبأنها أشرفُ مادَّة من الأرض، وأوسعُ وأنْوَر وأصفى وأحسنُ خِلْقَةً وأعظمُ آياتٍ، وبأن الأرض محتاجةٌ في كمالها إليها، ولا تحتاجُ هي إلى الأرض، ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدَّمَة على الأرض، وجُمِعت وأُفْرِدت الأرض فلشرفها وفضلها أتي بها مجموعة، وأمَّا الأرض فلم تأْتِ إلَّا مفردة، وحيث أريد تعدادُها قال: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، وهذا القول هو الصواب، والله أعلم.
بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (4/ 1334 - 1336)