الجواب عن قول القائل بأن سماعه الغناء لله وبالله ولا يضره ما فيه من المفاسد

فصل

‌فإن ‌قال ‌هذا ‌المغرور ‌المخدوع: ‌إن ‌سماع هذا الغناء المطرب بهذه الآلات المطربة المزعج للطباع الداعي لها إلى العشق ولوازمه لا يُؤثِّر عندي، ولا أسمعه لهذا الغرض، ولا يلتفت قلبي إلى حب ما يوصف فيه، وإنما أُنزله على مقتضى حالي ووجدي في حب الله والدار الآخرة، فهو يُثير من قلبي ما هو كامن فيه، كما يثير من قلب محب الدنيا والصور ما هو كامن فيه، فأنا سماعي لله وبالله، فلا يضرُّني ما فيه من المفاسد، بخلاف سماع أهل اللهو واللعب.

فالجواب أن يقال: هذا موضع الغرور والتلبيس، ومنه وقع مَن وقع في شبكة السماع وشَرَكِه، ورام التخلصَ منها فعزَّ عليه.

فيقال له أولًا:

ما الفرق بينك وبينَ من يقول: أنا أنظر إلى الصور المستحسنة من النساء الأجانب وإلى معاطفهن وقدودهن ووُرود خدودهن وسائر محاسنهن، وليس نظري نظر الفساق، فأنظر إليهن نظرَ اعتبارٍ واستدلال وتفكر في كمال قدرة الخالق، فأتعجب من حسن الصنعة في استدارةِ ذلك الوجه وحسنه، وتناسب خَلْقه، وتبلُّجِ تلك الجبهة والجبين فوقه واستوائهما، وتقوُّسِ تَينكَ الحاجبين واعتدالِ خلقهما كأنهما خُطَّا بقلم، وأقول: تبارك مَن خطهما بقلم القدرة!

وأنظرُ إلى تَينكَ العينين وما أُودِعَتاه من الملاحة والحلاوة والسواد في ذلك البياض، وحسن شكلهما، وجَمْعهما لمحاسن الوجه، ثم أنظر إلى دقة الأنف واستوائه وحسن شكله، وإلى ذلك الفم واستدارته ولطفه وبديع خلقه، وهكذا عضوًا عضوًا. وأقول في خلال ذلك كله: تبارك الله أحسنُ الخالقين، وإذا رأيتُ هذه الصورة ذكَّرتْني الحورَ العين، كما قال قائل:

وإذا رآك العابدون تيقَّنوا … حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ

فسَعَوا إلى ذاك النعيمِ وشمَّروا … إذ كان فيك عليه أكبرُ شاهد

وهل هذا إلا فَتْح لباب الإباحة وخَرْق لسياج الشريعة؟ وليس بعده إلا أن تقول: إنما حُرِّمت الخمر لما يُوقع شربُها فيه من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وأنا أشربها لغير هذا الغرض، بحيث لا تُوقِعني في عداوة ولا بغضاء، ولا تصدّني عن ذكر الله، ولا عن فرضٍ من فرائضه!

وكل هذا وأمثاله قد رأيناه وشاهدناه في بعض القوم، وفي كتبهم ومخاطباتهم، فانظر كيف يَرِقُّ الدين حتى ينسلخ منه الرجل كانسلاخ الشعرة من العجين، والمعصوم من عصمه الله.

ثم يقال لك ثانيًا:

الطباع البشرية فيك حيَّةٌ لم تمتْ، وإن ادّعيتَ غير هذا كذَّبتْك طباعك وبَشَريتك، فإذا زعمتَ أنك تسمع الإشارة سبقك الطبع إلى مقصوده وحظه قبل أخذ الإشارة، ثم تُبرطِلُك نفسُك بتلك الإشارة، والطبع يعمل عملَه ويتقاضى حظَّه وأنت مشغول عنه بالإشارة، والإشارة لا تدوم، فإذا ترحَّلتْ عنك طالبك الطبعُ بحظِّه أتمَّ مطالبة، فأعلى أحوالك أن تقعَ في حومة الحرب والجهاد، فيُدَال على طبعك مرةً ويُدالَ عليك أخرى، والغالب أنك أسيرٌ معه تجعل حظَّه عبودية وقربة، وهذه نكتة السماع وسِرُّه ولبُّه، فتكون أسوأ حالًا ممن سمعه لهوًا ولعبًا، وعدَّه معصية وذنبًا.

فليتأمل اللبيب الفطن هذا الموضع حقَّ التأمل، وليدقِّق النظرَ في هذا الدوار الذي اختطف من شاء الله من العالمين، وما نجا منه إلا فرد مميَّز عن كثرة الهالكين، والله المستعان وعليه التكلان.

ثم يقال لك ثالثًا:

لو كان سماعك بالله وعن الله كما تقول، لدلَّت على صدقك شواهدُ ذلك من سماع كلامه وأسمائه وصفاته ومواعظه وترغيبه وترهيبه، وما يدعو إلى محبته ويباعد عن سخطه، ولم يكن سماعك لشيء لا يُشار به إلى الخالق، وإنما يُشار به إلى الخمر والمسكر والمليحة والمليح وطيب وصالهما وعذوبته وتوابع ذلك، فتعالى الله وتنزَّه جنابُه وجلَّت عظمتُه أن يشار إليه بذلك، أو يُستجلَب رضاه وقربه به، كلا والله إن استُجلِبَ بذلك إلا مَقْتُه والبعدُ منه.

وكيف يجوز أن تؤخذ الإشاراتُ إلى الله سبحانه من التغزل في النساء والمردان؟ وأين هذا مما يجب له سبحانه من الهيبة والتعظيم والوقار والإجلال لعظمته وخشيته والخوف منه؟ وقد آل بهم هذا إلى أن أطلقوا في حقِّه سبحانه ما يطلقه هؤلاء العشاق في معشوقيهم من الصدّ والهجر والوصال وتوابع ذلك، ونشأت من ذلك الشطحات والطامَّات والرعونات التي هي ضد طريق العبودية، وكل هذا من مفاسد السماع، والعاقل يعلم أن مفسدة شرب الخمر دون هذه المفسدة بكثير.

ومن العجب استدلالهم على جواز سماع الغناء والمعازف والشبابة والدفوف المصلصلة بسماع أصوات الهَزار والبلبل والشُّحْرور والقُمري، وهل هذا إلا من جنس قياس الذين (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة: 275]؟ ومن جنس قياس أهل الإباحة الذين يقولون: النظر إلى الصور الجميلة والتلذذ بها مثل النظر إلى سائر ما خلق الله من المناظر البهيَّة من الأزهار والثمار والنبات والحيوان، فما الذي حلَّل هذا وحرَّم هذا؟ أَفَتَرى هذا ما عَلِمَ أن سماع أصوات الطيور ورؤية محاسن النبات والثمار لا يدعو إلى ما يدعو إليه سماع الغناء وآلات اللهو والنظر إلى الصور المستحسنة؟.

فإن كنتَ لا تدرِي فتلك مصيبةٌ … وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ.


الكلام على مسألة السماع (ص: 87 - 92)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله
hacklink hack forum hacklink film izle hacklink บาคาร่าสล็อตเว็บตรงสล็อตเว็บตรงsahabetcasibomviagra fiyatcialis fiyatbetciotipobetcasinobet siteleriPinbahiscasibomcasibomtrendbetganobetcialiskingroyalkingroyal girişcasibomtipobettipobettipobetmarsbahisjojobetkingroyal girişcasibom girişultrabetVbetgmbh verkaufenhacklinkhacklinkpusulabetสล็อตเว็บตรงpadişahbetdizipalbetofficesahabetjojobetcasibomjojobet girişgobahistipobet girişholiganbetJojobetjojobetjojobet1xbet girişJojobetGrandpashabetgobahisselcuksportsjojobet girişmatadorbetbetebettaraftarium24casibommeritkingtaraftarium24matadorbetcasibomcasibomselcuksportsselçuksportsnitrobahiscasibomdeneme bonusutrgoalsMarsbahisVdcasinotaraftarium24sekabetDinamobetCasibombetpuanDeneme bonusujustintvpasacasinomeritkingcasibomcasibomvenüsbetbetofficesetrabetbetsmovemavibetvaycasinovaycasinocasibomcasibomAlanya escortpadişahbetnakitbahisAntalya Escortpusulabetbahislioniptvcasibomvaycasinocasibom