أصناف الملائكة وأعمالهم

وكل حركة في السماوات والأرض: من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى: (فَالمُدَبِّرَاتِ أمْرا) [النازعات: 5]، وقال (فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْراً) [الذاريات: 4].

وهي الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام، وأما المكذبون للرسل، المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم، وقد أشبعنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح.

وقد دلّ الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكّلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكّل بالجبال ملائكة، ووكّل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكّل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكّل بالعبد ملائكة لحفظه، وملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكّل بالموت ملائكة، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة، ووكّل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكّل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكّل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكّل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة؛ فالملائكة أعظم جنود الله تعالى.

ومنهم: (وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فالمُلْقِيَاتِ ذِكْراً) [المرسلات: 1-5].

ومنهم: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرَا) [النازعات:1-5] ومنهم: (وَالصَّافّاتِ صَفا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرَا) [الصافات:1-3].

ومنهم: ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وُكّلوا بحمل العرش، وملائكة قد وُكّلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى.

ولفظ المَلَك يشعر بأنه رسول منفِّذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلا لَمِن اُرْتَضَى وَهْمْ مِنْ خَشْيَتهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء: 27 - 28]، (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمَرُونَ) [النحل: 50] ، (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرْونَ) [التحريم: 6]، ولا تتنزّل إلا بأمره، ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه، فهم:(عِبَادٌ مُكرَمُونَ) [الأنبياء: 26].

منهم الصافون، ومنهم المسبّحون، ليس منهم إلا من له مقام معلوم، لا يتخطّاه وهو على عمل قد أُمر به لا يقصر عنه، ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه: (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليْلَ وَالنَّهَارَ لا يفْتُروُنَ) [الأنبياء: 19- 20].

ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "الّلهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اُهْدِنِى لَمِا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ". فتوسل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكّلين بالحياة.

فجبريل موكّل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكّل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم؛ فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لما في ذلك من الحياة النافعة.

وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل في القرآن أحسن الثناء، ووصفه بأجمل الصفات فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنسِ وَالليْلِ إذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولِ كَرِيمٍ ذِي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين) [التكوير: 15- 21].

فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه، وأنه مطاع في السماوات، وأنه أمين على الوحي.

فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه.

قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك.

ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه، ثم قلبها عليهم. فهو قوى على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى.

قال ابن جرير في تفسيره: عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى صالح: أمين على أن يدخل سبعين سُرادقاً من نور بغير إذن.

ووصفه بالأمانة يقتضى صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان؛ فالمكانة والأمانة والقوة والقرب من الله.

ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: (إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيَنَا مَكِين أَمِينٌ) [يوسف: 54].

والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنة شعيب في موسى عليهما السلام: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأمِينُ) [القصص: 26].

وقال تعالى في وصفه: (عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مٍرَّةٍ فَاسْتَوى) [النجم: 5-6].

قال ابن عباس رضى الله عنهما: ذو منظر حسن.

وقال قتادة: ذو خلق حسن.

وقال ابن جرير: عنى بالمِرّة: صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا.

والمِرّة واحدة المرر، وإنما أريد به ذو مِرّة سوية، ومنه قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِى، وَلا لِذِى مِرَّةٍ سَوِي".

قلت: هذا حجة من قال: المرة القوة في الآية، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهو قول ضعيف؛ لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه: (شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 5].

ولا ريب أن المِرّة في الحديث هي القوة، لا المنظر الحسن، فإما أن يقال: المِرّة تقال على هذا وعلى هذا، وإما أن يقال -وهو الأظهر-: إن المِرّة هي الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة، وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها؛ فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب، فهي قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا، والله أعلم.

وقالت اليهود للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر؟ قال: "هو جبريل". قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالنبات والقطر والرحمة؟ فأنزل الله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوا لْجِبِريلَ فَإنَّه نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 97 - 98].

والمقصود: أن الله سبحانه وكّل بالعالم العلوي والسفلي ملائكة، فهي تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة، لكونهم هم المباشرين للتدبير، كقوله: (فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات: 5].

ويضيف التدبير إليه كقوله: (إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ) [يونس: 3] وقوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَي مِنَ المَيِّتِ وَيخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَي وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ الله) [يونس: 31].

فهو المدبر: أمراً وإذناً ومشيئةً، والملائكة المدبرات: مباشرة وامتثالاً.

وهذا كما أضاف التوفي إليهم تارة، كقوله تعالى: (تَوَفّتْهُ رُسُلنَا) [الأنعام: 61]، وإليه تارة، كقوله: (اللهُ يَتَوَفي الأنْفسَ) [الزمر: 42] ونظائره.

والملائكة الموكّلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر؛ فإنهم موكلون بتخليقه، ونقله من طور إلى طور، وتصويره، وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه، وعمله، وأجله، وشقاوته، وسعادته، وملازمته في جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه في حياته، وقبض روحه عند وفاته، وعرضها على خالقه وفاطره. وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزخ، وبعد البعث. وهم الموكّلون بعمل آلات النعيم والعذاب، وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابّون عنه، وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة، وهم الذين يرونه في منامه ما يخافه ليحذره، وما يحبه ليقوى قلبه، ويزداد شكرا، وهم الذين يَعِدُونَه بالخير ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر، ويحذرونه منه.

فهم أولياؤه وأنصاره، وحفظته، ومعلموه، وناصحوه، والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون عليه مادام في طاعة ربه، ويصلون عليه مادام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه، وعند موته، ويوم بعثه، وهم الذين يزهّدونه في الدنيا، ويرغبونه في الآخرة. وهم الذين يذكّرونه إذا نسى. وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع، وهم الذين يسعون في مصالح دنياه وآخرته.

فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر قد أطّت بهم السماء، وحق لها أن تَئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليه.

والقرآن مملوء بذكر الملائكة، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم. كقوله تعالى: (وَإذْ قَالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعٍلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَل فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقّدِّسُ لَكَ قّالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكةِ فَقالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسمائهم فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أعْلُم غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ) إلى آخر القصة [البقرة: 30 - 38] وقوله: (تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبهِّمْ) [القدر: 4]، وما بين هاتين السورتين في سور القرآن؛ بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا، أو تلويحا، أو إشارة.

وأما ذكرهم في الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر.

ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التي هي أركان الإيمان، وهي الأيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

فلنرجع إلى المقصود، وهو: أن حركات العالم العلوي والسفلي بالملائكة.


إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 125 - 131)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله