لو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبعث: لَبَطَلَتْ نبوةُ الأنبياء قبله

 

في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوة سائر الأنبياء.

فظهورُ نبوته تصديقٌ لنبواتهم، وشهادةٌ لها بالصدق، فإرسالُه من آيات الأنبياء قَبْلَه، وقد أشار -سبحانه- إلى هذا المعنى بعينه في قوله: (بَلْ جَاَءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 37]. فإن المرسلين بشَّروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس (صدق خبرهم)، فكان مجيئه تصديقًا لهم؛ إذْ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إنَّ تصديقَه المرسلين شهادتُه بصِدْقِهم وإيمانُه بهم، فإنه صدَّقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصِدْقِهم بنفس مجيئهِ، وشهد بصدقهم بقوله.

ومثلُ هذا: قول المسيح: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف: 6]، فإن التوراة لما بشَرتْ به وبنبوته كان نَفْسُ ظهورِه تصديقًا لها، ثم بشَّر برسولٍ يأتي مِن بعده؛ فكان ظهورُ الرسول المبشَّر به تصديقًا له، كما كان ظهوره تصديقًا للتوراة؛ فعادة الله في رسله أنَّ السابق يبشِّر باللَّاحِقِ، واللَّاحِقِ يصدِّق السابقَ.

فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث: لَبَطَلَتْ نبوةُ الأنبياء قبله.

والله سبحانه لا يخلف وَعْدَه ولا يكْذِبُ خَبَرُه. وقد كان بشَّر إبراهيمَ وهَاجَرَ بشاراتٍ بيِّناتٍ، ولم نرها تَمَّتْ ولا ظهرتْ إلا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بُشِّرت به هاجر من ذلك بما لم تبشَّر به امرأةٌ من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أنَّ مريم بُشِّرت به مرةً واحدة، وبُشِّرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبُشِّر به إبراهيم مرارًا، ثم ذكر الله -سبحانه- هاجر بعد وفاتها كالمخاطِب لها على ألسنة الأنبياء.

ففي التوراة: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: قد أجبتُ دعاءك في إسماعيل، وباركتُ عليه، وكبَّرته، وعظَّمته جدًّا جدًّا، وسيلد ابنًا عظيمًا، وأجعل له أمة عظيمة".

هكذا في ترجمة بعض المترجمين وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرًا من أحبار اليهود فإنه يقول: "وسيلد اثني عشر أمةً من الأمم"، وفيها: "لما هربت هاجر من سارة تراءى لها مَلَك الله، وقال: يا هَاجَرُ (أمةَ سارة!) مِنْ أين أقبلت؟ وإلى أين تذهبين؟! قالت: هربت من سيدتي. فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثِّر ذريَّتك وزَرْعَك حتى لا يُحْصَون كثرةً، وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا تسمِّينه إسماعيل، لأنَّ الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس، وتكون يَدُه فوق الجميع، ويَدُ الجميعِ مبسوطةٌ إليه بالخضوع، ويكون مَسْكَنُه على تُخُوم جميع إخوته" .

وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في بَرِّيَّة فاران، وفيها: "فقال لها المَلَكُ: يا هاجر ليفرح روعك فقد سمع الله تعالى صوت الصبيِّ، قومي فَاحْمِلِيْه وتمسَّكي به؛ فإن الله جاعِلُه لأمةٍ عظيمةٍ، وإنّ الله فتح عليها. فإذا ببئر ماء، فذهبتْ وملأت المزادة منه وسقت الصبيَّ منه، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربَّى، وكان مسكنه في بَرِّيَّةِ فَارَانَ" .

فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل؛ نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر وفي التوراة أيضًا بشارات أُخَر بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدًّا، وأن نجوم السماء تُحْصَى ولا يُحْصَون ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.

فإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مُشَرَّدِينَ خَوَلًا للفراعنة والقِبْط حتى أنقذهم الله بنبيِّه وكليمه موسى بنِ عِمْرَانَ، وأورثهم أرض الشام فكانت كرسيَّ مملكتهم، ثم سَلَبَهم ذلك وقطَّعهم في الأرض أممًا مسلوبًا عِزُّهم ومُلْكهم؛ قد أخذتهم سيوف السودان، وعَلَتْهُمْ أعلاج الحمران حتى إذا ظهر النبيُّ صلى الله عليه وسلم تَمَّت تلك النبوات، وظهرتْ تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فَهَشَمُوهُمْ هَشْمًا، وطحنوهم طحنًا، وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدَّت الأمم أيْدِيَها إليهم بالذلِّ والخضوع، وعَلَوْهم عُلُوَّ الثريا فيما بين الهند والحبشة والسُّوس الأقصى وبلاد التُّرْك والصَّقَالِبَة والخَزَر، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذِكْرُ إبراهيم على ألسنة الأمم كلها، فليس صبيٌّ من بعد ظهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا امرأةٌ، ولا حرٌّ ولا عَبْد، ولا ذكرٌ ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآلَ إبراهيم.

وأما النصرانية - وإن كانت قد ظهرتْ في أممٍ كثيرة جليلة؛ فإنه لم يكن لهم في محلِّ إسماعيل وأمه هاجر سلطانٌ ظاهر، ولا عِزٌّ قاهرٌ البتَّة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع، ولا امتدَّت إليهم أيدي الأمم بالخضوع وكذلك سائر ما تقدَّم من البشارات التي تفيد بمجموعها العِلْم القطعيَّ بأنَّ المراد بها: محمدُ بنُ عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّتُه، فإنَّه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلتْ تلك النبوَّات.

ولهذا لما علم الكُفَّار من أهل الكتاب أنَّه لا يمكن الإيمانُ بالأنبياء المتقدِّمين إلا بالإيمان بالنبيِّ الذي بشّروا به قالوا: نحن في انتظاره ولم يجئ بعد، ولما عَلِمَ بعضُ الغلاة في كفره وتكذيبه منهم: أنَّ هذا النبيَّ في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولدٌ اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله!

ولا يكثر على أمة البَهْتِ وإخوانِ القرود وقَتَلَةِ الأنبياء مثلُ ذلك، كما لم يكثر على المثلِّثة عُبَّاد الصليب -الذين سبُّوا رب العالمين أعظم مسبَّة- أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم.


هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/ 375)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله