الْفرق بَين الشجَاعَة وَالْقُوَّة، وصور من شجاعة الصّديق رَضِي الله عَنهُ

وَكثير من النَّاس تشتبه عَلَيْهِ الشجَاعَة بِالْقُوَّةِ وهما متغايران؛ فَإِن الشجَاعَة هِيَ: ثبات الْقلب عِنْد النَّوَازِل وَإِن كَانَ ضَعِيف الْبَطْش، وَكَانَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَشْجَع الْأمة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ عمر وَغَيره أقوى مِنْهُ، وَلَكِن برز على الصَّحَابَة كلهم بثبات قلبه فِي كل موطن من المواطن الَّتِي تزلزل الْجبَال وَهُوَ فِي ذَلِك ثَابت الْقلب، ربيط الجأش، يلوذ بِهِ شجعان الصَّحَابَة وأبطالهم، فيثبتهم ويشجعهم، وَلَو لم يكن لَهُ إلا ثبات قلبه يَوْم الْغَار وَلَيْلَته، وثبات قلبه يَوْم بدر وَهُوَ يَقُول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "يَا رَسُول الله كَفاك بعض مُنَاشَدَتك رَبك فَإِنَّهُ منجر لَك مَا وَعدك".

وثبات قلبه يَوْم أحد وَقد صرخَ الشَّيْطَان فِي النَّاس بِأَن مُحَمَّدًا قد قتل وَلم يبْق أحد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلا دون عشْرين فِي أحد، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ثَابت الْقلب، سَاكن الجأش، وثبات قلبه يَوْم الخَنْدَق وَقد زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر، وثبات قلبه يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَقد قلق فَارس الإسلام عمر بن الْخطاب حَتَّى إِن الصّديق ليثبته ويسكنه ويطمئنه، وثبات قلبه يَوْم حنين حَيْثُ فرّ النَّاس وَهُوَ لم يفر، وثبات قلبه حِين النَّازِلَة الَّتِي اهتزت لَهَا الدُّنْيَا أجمع، وكادت تَزُول لَهَا الْجبَال وعقرت لَهَا أَقْدَام الْأَبْطَال وَمَاجَتْ لَهَا قُلُوب أهل الْإِسْلَام كموج الْبَحْر عِنْد هبوب قواصف الرِّيَاح، وَصَاح لَهَا الشَّيْطَان فِي أقطار الأَرْض أبلغ الصياح، وَخرج النَّاس بهَا من دين الله أَفْوَاجًا، وأثار عَدو الله بهَا أقطار الأَرْض عجاجا، وَانْقطع لَهَا الْوَحْي من السَّمَاء، وَكَاد لَوْلَا دفاع الله لطمس نُجُوم الاهتداء، وَأنْكرت الصَّحَابَة بهَا قُلُوبهم، وَكَيف لَا وَقد فقدوا رسولهم من بَين أظهرهم وحبيبهم وطاشت الأحلام، وَغشيَ الْآفَاق مَا غشيها من الظلام، وشرأب النِّفَاق، وَمد أَهله الاعناق، وَرفع الْبَاطِل رَأْسا، كَانَ تَحت قدم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوْضُوعا، وَسمع الْمُسلمُونَ من أَعدَاء الله مَا لم يكن فِي حَيَاته بَينهم مسموعا، وطمع عَدو الله أَن يُعِيد النَّاس إِلَى عبَادَة الْأَصْنَام، وَأَن يصرف وُجُوههم عَن الْبَيْت الْحَرَام، وَأَن يصد قُلُوبهم عَن الإيمان وَالْقُرْآن، ويدعوهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من التهوّد والتمجس والشرك وَعبادَة الصلبان، فشمر الصّديق رَضِي الله عَنهُ من جده عَن سَاق غير خوار، وانتضى سيف عزمه الَّذِي هُوَ ثَانِي ذِي الفقار، وامتطى من ظُهُور عَزَائِمه جوادا لم يكن يكبو يَوْم السباق، وَتقدم جنود الإسلام فَكَانَ أفرسهم، إِنَّمَا همّه اللحاق، وَقَالَ: "وَالله لأجاهدنّ أَعدَاء الْإِسْلَام جهدي، ولأصدقنهم الْحَرْب حَتَّى تنفرد سالفتي أَو أفرد وحدي، ولأدخلنهم فِي الْبَاب الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ، ولأردنّهم إِلَى الْحق الَّذِي رَغِبُوا عَنهُ" فَثَبّت الله بذلك الْقلب الَّذِي لَو وُزن بقلوب الْأمة لرجحها جيوش الْإِسْلَام، وأذلّ بهَا الْمُنَافِقين والمرتدين وَأهل الْكتاب وَعَبدَة الْأَصْنَام حَتَّى استقامت قناة الدّين من بعد اعوجاجها، وَجَرت الْملَّة الحنيفية على سننها ومنهاجها، وَتَوَلَّى حزب الشَّيْطَان وهم الخاسرون، وَأذّن مُؤذن الإيمان على رُؤُوس الْخَلَائق: (‌فَإِنَّ ‌حِزۡبَ ‌ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ) [المائدة: 56].

هَذَا وَمَا ضعفت جيوش عزماته وَلَا استكانت وَلَا وهنت؛ بل لم تزل الجيوش بهَا مؤيدة ومنصورة، وَمَا فرحت عزائم أعدائه بالظفر فِي موطن من المواطن؛ بل لم تزل مغلوبة مَكْسُورَة.

تِلْكَ لَعَمرٌ الله الشجَاعَة الَّتِي تضاءلت لَهَا فرسَان الْأُمَم، والهمة الَّتِي تصاغرت عِنْدهَا عليات الهمم، ويحق لصديق الْأمة أَن يضْرب من هَذَا الْمغنم بأوفر نصيب، وَكَيف لَا وَقد فَازَ من مِيرَاث النُّبُوَّة بِكَمَال التعصب.

وَقد كَانَ الْمَوْرُوث صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ أَشْجَع النَّاس؛ فَكَذَلِك وَارثه وخليفته من بعده أَشْجَع الْأمة بِالْقِيَاسِ، وَيَكْفِي أَن عمر بن الْخطاب سهم من كِنَانَته ،وخَالِد بن الْوَلِيد سلَاح من أسلحته، والمهاجرون وَالْأَنْصَار أهل بيعَته وشوكته، وَمَا مِنْهُم إلا من اعْترف أَنه يستمد من ثباته وشجاعته.


الفروسية المحمدية - ت مشهور (ص: 500 – 503)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله