هل تحبط الأعمال بترك الصَّلاة أم لا؟

وأمَّا المسْألة الخامسة: وهي قوله: هل تحبط الأعمال بترك الصَّلاة أم لا؟ فقد عُرِف جوابُها ممَّا تقدَّم، على أنَّا نفرد هذه المسألة بالكلام عليها بخصوصها.

فنقول: أمَّا تركها بالكليَّة فإنَّه لا يُقْبَل معه عملٌ، كما لا يُقْبَل مع الشِّرك عملٌ؛ فإنَّ الصَّلاة عمود الإسلام كما صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسائر الشَّرائع كالأطناب والأوتاد ونحوها، وإذا لم يكن للفُسْطاط عمودٌ لم يُنْتَفع بشيءٍ من أجزائه. فقبول سائر الأعمال موقوفٌ على قبول الصلاة، فإذا رُدَّت رُدَّت عليه سائر الأعمال. وقد تقدَّم الدَّليل على ذلك.

وأمَّا تركها أحيانًا فقد روى البخاري في صحيحه، من حديث بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بكِّرُوا بصلاة العصر؛ فإنَّ مَنْ ترك صلاة العصر فقد حَبِط عملُه".

وقد تكلَّم قومٌ في معنى هذا الحديث، فأَتَوا بما لا حاصل له.

قال المهلَّب: معناه: من تركها مضيِّعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها، مع قدرته على أدائها حَبِط عمله في الصَّلاة خاصَّة. أي: لا يحصل له أجر المصلِّي في وقتها، ولا يكون له عملٌ ترفعه الملائكة.

وحاصل هذا القول: أنَّ مَن تركها فاته أجرُها. ولفظ الحديث ومعناه يأبى ذلك، ويفيد حُبُوط عملٍ قد ثَبَت وفُعِل، وهذا حقيقة الحُبُوط في اللُّغة والشَّرع. ولا يُقَال لمن فاتَه ثواب عمَلٍ من الأعمال: إنَّه قد حبِط عملُه، وإنَّما يُقَال: فاتَه أجر ذلك العمل.

وقالت طائفةٌ: يحبط عمل ذلك اليوم، لا جميع عمله؛ فكأنَّهم استصعبوا حبوط الأعمال الماضية كلِّها بترك صلاةٍ واحدةٍ، وتركها عندهم ليس برِدَّةٍ تُحْبِط الأعمال، فهذا الذي اسْتَشْكله هؤلاء هو واردٌ عليهم بعينه في حبوط عمل ذلك اليوم.

والذي يظهر في الحديث ـ والله أعلم بمراد رسوله ـ أنَّ التَّرك نوعان:

تركٌ كُلِّيٌ، لا يصلِّيْها أبدًا؛ فهذا يُحبِط العمل جميعه. وتركٌ معيَّنٌ، في يوم معيَّنٍ؛ فهذا يُحبِط عمل ذلك اليوم. فالحبوط العامُّ في مقابلة التَّرك العام، والحبوط المعيَّن في مقابلة التَّرك المعيَّن.

فإنْ قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الرِّدَّة؟

قيل: نعم، قد دلَّ القرآن، والسُّنَّة، والمنقول عن الصَّحابة: أنَّ السَّيِّئات تحبط الحسنات، كما أنَّ الحسنات يذهبن السَّيِّئات. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة : 264]. وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : 2].

وقالت عائشة لأمِّ ولد زيد بن أرقم: "أخبري زيدًا أنَّه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا أنْ يتوب"، لمَّا باع بالعِيْنة.

وقد نصَّ الإمام أحمد على هذا، فقال: "ينبغي للعبد في هذا الزَّمان أنْ يستدين ويتزوَّج؛ لئلَّا ينظر إلى ما لا يحلُّ، فيحبط عمله".

وآيات الموازنة في القرآن تدلُّ على هذا؛ فكما أنَّ السيِّئة تَذْهَبُ بحسنةٍ أكبر منها فالحسنة يَحبَطُ أجرُها بسيئةٍ أكبر منها.

فإنْ قيل: فأيُّ فائدةٍ في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصَّلوات؟

قيل: الحديث لم ينف الحُبُوط بغير العصر، إلَّا بمفهوم لَقَبٍ، وهو مفهومٌ ضعيفٌ جدًّا.

وتخصيص العصر بالذِّكر لشرفها من بين الصَّلوات؛ ولهذا كانت هي الصَّلاة الوسطى بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّحيح الصَّريح. ولهذا خصَّها بالذِّكر في الحديث الآخر، وهو قوله: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنَّما وُتِر أهلَه ومالَه". أي: فكأنَّما سُلِبَ أهلَه ومالَه، فأصبح بلا أهلٍ ولا مالٍ.

وهذا تمثيلٌ لحبوط عمله بتركها؛ كأنَّه شبَّه أعماله الصالحة في انتفاعه بها وتمتُّعه بها بمنزلة أهله وماله، فإذا ترك صلاة العصر فهو كَمَنْ له أهلٌ ومالٌ، فخرج من بيته لحاجةٍ ـ وفيه أهله وماله ـ فرجع وقد اجْتِيْحَ الأهلُ والمالُ، فبقي وِتْرًا دونهم، ومَوْتُورًا بفقدهم. فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التَّمثيل مطابقًا.

و‌‌الحبوط نوعان: عامٌّ، وخاصٌّ.

فالعام حبوط الحسنات كلِّها بالرِّدَّة، والسَّيِّئات كلِّها بالتَّوبة.

والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعضٍ، وهذا حبوطٌ مقيَّدٌ جزئيٌّ، وقد تقدَّم دلالة القرآن والسُّنَّة والآثار وأقوال الأئمَّة عليه.

ولمَّا كان الكفر والإيمان كُلٌّ منهما يُبْطِل الآخرَ ويذهِبُه كانت شُعب كلِّ واحدٍ منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإنْ عظمت الشُّعبة أذْهَبَت في مقابلتها شعبًا كثيرة.

وتأمَّل قول أم المؤمنين في مُسْتَحلِّ العِيْنة: "إنَّه قد أبْطَل جهادَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كيف قويت هذه الشُّعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله - صلى الله عليه وسلم - على إبطال محاربة الكفار. فأبطل الحِرابُ المكروهُ الحِرابَ المحبوبَ، كما تُبْطِل محاربةُ أعدائِه التي يحبُّها محاربَتَه التي يبغضُها. والله المستعان.


الصلاة (1 / 107 – 113 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله