عشرون ضابطاً في أسماء الله تعالى وصفاته

ويجب أن يُعْلَم هنا أمور:

أحدهما: أنَّ ما يدخل في باب الإخبار عنه -تعالى- أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه، فإن هذا يُخْبر به عنه، ولا يَدْخل في أسمائه الحسنى وصفاته العُلى.

الثاني: أنَّ الصِّفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص؛ لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يُطْلَقُ عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع، فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غَلِطَ من سمَّاه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعَّالُ لما يريدُ فإن الإرادة والفعل والصُّنْع منقسمة، ولهذا إنما أطلقَ على نفسِه من ذلك أَكْمَلَه فِعْلًا وخَبَرًا.

الثالث: أَنَّه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يُشْتَق له منه اسم مطلق، كما غَلِط فيه بعضُ المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى: المُضِل الفاتن الماكر -تعالى الله عن قوله- فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه -سبحانه- منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم.

الرابع: أنَّ أسماءه الحسنى هى أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العَلَمية، بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي عَلَميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة فَنَافَتْها العَلَمية المختصة، بخلاف أوصافه -تعالى-.

الخامس: أَنَّ الاسم من أسمائه له دلالات؛ دلالة على الذات والصفة بالمطابقة؛ ودلالة على أحدهما بالتضمُّن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم.

السَّادس: أَنَّ أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبارٌ من حيث الذات، واعتبارٌ من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة.

السابع: أنَّ ما يُطْلَق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفيٌّ، وما يُطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًا، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. فهذا فَصْل الخطاب في مسألة أسمائه؛ هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع.

الثامن: أنَّ الاسم أذا أُطلِق عليه؛ جاز أن يُشْتق منه المصدر والفعل، فيُخْبر به عنه فعلًا ومصدرًا، نحو: السميع البصير القدير، يطلق عليه منه اسم السمع والبصر والقدرة، ويُخْبر عنه بالأفعال، من ذلك نحو: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) [المجادلة: 1]. (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) [المرسلات: 23] هذا إن كان الفعلُ متعديًا، فإن كان لازمًا لم يُخْبر عنه به، نحو: الحي، بل يُطْلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، فلا يقال: حيي.

التاسع: أنَّ أفعال الربِّ -تعالى- صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة: عن أفعالهم، فالربُّ -تعالى- فِعَاله عن كماله. والمخلوق كمالُه عن فِعَاله، فاشْتُقَّت له الأسماء بعد  أن كَملَ بالفعل. فالربُّ -تعالى- لم يزل كاملًا، فحصلت أفعالُه عن كماله؛ لأنه كاملٌ بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كمالِهِ كَمُل فَفَعَل، والمخلوق فَعَل فكَمُلَ الكمال اللائق به.

العاشر: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكلِّ معلوم، فإن المعلومات سواه: إما أن تكون خلقا له -تعالى- أو أمرًا، إما عِلْم بما كوَّنه، أو عِلْم بما شَرَعَه، ومصدرُ الخلقِ والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كلُّه مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حَسَن، لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كلُّه مصلحَة وحِكْمة ورحمة ولطفٌ وإحسان، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العَدْل والحكمة، والمصلحة والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خَلْقِه ولا عَبَث، ولم يخلق خلْقَه باطلًا ولا سدًى ولا عَبَثًا، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سِواه تابعٌ لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به -تعالى- أصل للعلم بكلِّ ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمخلوق أحْصَى جميعَ العلوم؛ إذ إحصاءُ أسمائه أصل لإحصاء كلِّ معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللًا ولا تفاوتًا، لأن الخللَ الواقع فيما يأمر به العبدُ أو يفعله: إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته. وأما الرب -تعالى- فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خللٌ ولا تفاوت ولا تناقض.

الحادي عشر: أن أسماءه كلَّها حُسْنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا، وقد تقدَّم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل، نحو: الخالق والرزَّاق والمحيي والمميت، وهذا يدلُّ على أن أفعاله كلَّها خيرات محضة لا شرَّ فيها، لأنه لو فعل الشر لا شْتُق له منه اسمٌ، ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، وهذا باطل، فالشرُّ ليس إليه، فكما لا يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته = لا يدخل في أفعاله، فالشرُّ ليس إليه، لا يُضَاف إليه فعلًا ولا وصفًا وإنما يدخل في مفعولاته. وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأمل هذا فإنه خفيَ على كثير من المتكلِّمين، وزلَّت فيه أقدام، وضَلَّت فيه أفهام، وهدى الله أهلَ الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الثانى عشر: في بيان مراتب إحصاء أسمائه -تبارك وتعالى- التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قُطْب السعادة ومدار النجاة والفلاح.

المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.

المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180].

وهو مرتبتان: أحدهما: دعاء ثناء وعبادة.

والثاني: دعاء طلبٍ ومسألة.

فلا يُثْنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، ولذلك لا يُسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي وارحمني!! بل يُسئل في كلِّ مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسِّلًا إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرُّسُل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجدَها مطابقةً لهذا.

وهذه العبارة أولى من عبارة من قال: يتخلق بأسماء الله؟؛ فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي مُنْتَزعة من قول الفلاسفة بالتشبُّه بالإله على قَدْر الطاقة. وأحسنُ منها عبارة أبى الحكم بن بَرَّجان، وهي: التعبد، وأحسن منها: العبارةُ المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة: أشدها إنكارًا عبارة الفلاسفة، وهي: التشبُّه. وأحسن منها عبارة من قال: التخلُّق، وأحسن منها عبارة من قال: التعبُّد، وأحسن من الجميع: الدعاء، وهي لفظ القرآن.

الثالث عشر: اختلف النظار في الأسماء التي تُطْلق على الله وعلى العباد، كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير والملك ونحوها.

فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقة في العبد، مَجاز في الرب، وهذا قول غُلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادًا.

الثاني مقابله وهو: أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد، وهذا قول أبي العباس النَّاشِئ.

الثالث: أنها حقيقة فيهما.

وهذا قول الأكثرين، وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرَّب تعالى منها ما يليق بجلاله، وللعبد منها ما يليق يه. وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال، وإبطال باطلها وتصحيح صحيحها، فإن الغرض الإشارة: إلى أمور ينبغي معرفتها فى هذا الباب، ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سِفْرين أو أكثر.

الرابع عشر: أنَّ الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: اعتبار من حيث هو، مع قَطْع النظر عن تقييده بالرَّبِّ أو العبد.

الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به.

الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مُقَيدًا به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته، كان ثابتًا للرب والعبد، وللربِّ منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.

وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات، والبصير الذي يلزمه رؤية المُبْصَرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء، فإن شرط صحة إطلاقها: حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها.

فما لزم هذه الأسماء لِذَاتها، فإثباته للرب -تعالى- لا محذورَ فيه بوجهٍ، بل تثبتُ له على وجه لا يماثل فيه خلقَه ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحد في أسمائه وجَحَدَ صفات كماله. ومن أثبته له على وجهٍ يماثل فيه خلْقَه فقد شبَّهَه بخلقه، ومن شبَّه اللهَ بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجهٍ لا يماثل فيه خلقه، بل كما يليقُ بجلاله وعظمته؛ فقد بَرِئ من فَرْث التشبيه ودَمِ التعطيل، وهذا طريق أهل السنة.

وما لزم الصفةَ لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيه عن الله، كما يلزم حياة العبد من النوم والسِّنَةِ والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك. وكذلك ما يلزم إرادته من حركةِ نفسه في جلبِ ما ينتفع به ودفع ما يتضرَّر به. وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى مَا هو عال عليه، وكونه محمولًا به مفتقرًا إليه محاطًا به، كلُّ هذا يجب نفيه عن القدوس السلام -تبارك وتعالى-.

وما لزم الصفة من جهة اختصاصه -تعالى- بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق، فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبْرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي خَلَصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة التشبيه، فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أثبتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلَى حقيقة، فخلصت من التعطيل، ونفيتَ عنها خصائصَ المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبَّر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب.

الخامس عشر: أنَّ الصفة متى قامت بموصوفٍ لزمها أمور أربعة: أمران لفظيان وأمران معنويان.

فاللفظيان: ثُبُوتي وسَلْبي، فالثبوتي: أن يُشتق للموصوف منها اسم، والسَّلْبي: أن يمتنع لاشتقاق لغيره.

والمعنويان: ثبوتي وسلبي، فالثبوتي: أن يعود حكمها إلى الموصوف ويخبر بها عنه، والسلبي: أنه لا يعود حكمُها إلى غيره، ولا يكون خَبَرًا عنه.

وهذه قاعدة عظيمة في معرفة الأسماء والصفات، فلنذكر من ذلك مثالًا واحدًا وهى: صفة الكلام، فإنها إذا قامت بمحلٍّ كان هو المتكلِّم دون من لم تقم به، وأخبر عنه بها، وعاد حكمها إليه دون غيره، فيقال: قال وأمر ونهى ونادى وناجى وأخير وخاطب وتكلم وكلَّم، ونحو ذلك، وامتنعت هذه الأحكام لغيره، فيستدل بهذه الأحكام والأسماء على قيام الصفة به وسلبها عن غيره وعلى عدم قيامِها به، وهذا هو أصل السنة الذي ردُّوا به على المعتزلة والجهميةَ، وهو من أصح الأصول طَرْدًا وعَكْسًا.

السادس عشر: أنَّ الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تُحَد بعدد، فإن لله -تعالى- أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل، كما في الحديث الصحيح: "أسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أَنزَلْتَه في كتَابِكَ، أو أسْتأْثَرْتَ بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ" فجعل أسماءَه ثلاثة أقسَام:

قِسْم: سَمَّى به نفسَه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه.

وقسم: أنزل به كتابه فتعرَّفَ به إلى عباده.

وقسم: استأثرَ به في علمِ غيبه، فلم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه، ولهدا قال: "استأثرْتَ بهِ" أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمِّي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: "فيفتحُ عليَّ من مَحامِدِه بما لا أُحْسِنُه الآن" وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته - تبارك وتعالى-. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثْنيْتَ على نَفْسِك". وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله تسعةً وتسعينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجنةَ" فالكلامُ جملة واحدة. وقوله: "مَن أَحْصَاها دَخَلَ الجنْةَ" صفةٌ لا خبر مستقبل.

والمعنى: له أسماء متعددة، مِن شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وهذا لا ينفي أن يكون له تعالى أسماء غيرها. وهذا كما تقول: لفلان مئة مملوكٍ. قد أعدهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون الغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه.

السَّابع عشر: أن أسماءه -تعالى- منها ما يُطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره وهو غالب الأسماء، كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ أن يدعى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حكيم، يا غفور يا رحيم، وأن يفرد كلُّ اسم، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه به يسوغ لك الإفراد والجمع.

ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله؛ كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يُفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرونٌ بالمعطي والنافع والعفوِّ، فهو المعطي المانع، الضار النافع، العفوُّ المنتقم، المعزُّ المذلُّ؛ لأن  الكمال في اقتران كلِّ اسم من هذه بما يُقابله؛ لأنه يُرَاد به: أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم: عطاء ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وعَفْوًا وانتقامًا. وأما أن يُثْنى عليه بمجرَّد المنع والانتقام والإضرار؛ فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فَصْل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه.

فلو قلت: يا مُذِل يا ضار يا مانع، أو أخبرتَ بذلك؛ لم تكن مُثنيًا عليه ولا حامدًا حتى تذكر مقابله.

الثَّامن عشر: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا ولا نقصًا، وإن كانت القِسْمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا وهو: ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين. والربُّ -تعالى- مُنزَّه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول، فصفاته كلها صفات كمالٍ مَحْض، فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة: على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدِّي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادفٍ مَحْض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.

وإذا عرفت هذا؛ فله سبحانه من كلِّ صفةِ كمالٍ أحسنُ اسمٍ وأكمله وأتمه معنًى، في أبعده وأنزهه عن شائبة عيبٍ أو نقص، فله من صفة الإدراكات: الحليم الخبير، دون: العاقل الفقيه. والسميع البصير، دون: السامع والباصر والناظر.

ومن صفات الإحسان: البَرُّ الرحيم الودود، دون: الرقيق والشفوق ونحوهما. وكذلك: العَلِي العظيم، دون: الرفيع الشريف. وكذلك: الكريم، دون: السخى، والخالق البارئ المصوِّر، دون: الفاعل: الصانع المُشَكِّل، والغفور العفوُّ، دون: الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم. غيرُه مقامَه، فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدل عما سمَّى به نفسَه إلى غيره، كما لا تتجاوز. ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إلى ما وصفه به المبطلون والمعطِّلون.

التاسع عشر: أن من أسمائه الحسنى ما يكون دالًّا على عِدَّة صفات، ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناولَ الاسم الدال على الصفة الواحدة لها كما تقدم بيانه، كاسْمِه: العظيم والمجيد والصمد، كما قال ابن عباس -فيما رواه عنه ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" -: "الصمد: السيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عَظَمْته، والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في عِلْمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حِكْمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع شرفه وسؤدده، وهو الله سبحانه وتعالى. هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار" هذا لفظه.

وهذا مما خَفِيَ على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحُسْنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحِط بهذا علمًا بخَسَ الاسمَ الأعظم حقَّه وهضمَه معناه، فتدبَّرْهُ.

العشرون: وهي الجامعة لما تقدَّم من الوجوه، وهو معرفة الإلحاد في أسمائه حتى يقع فيه. قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180] والإلحاد في أسمائه هو: العدولُ بها وبحقائقه ومعانيها عن الحقِّ الثابتِ لها، وهو مأخوذ من الميل كما يدلُّ عليه مادته (ل ح د). فمنه: اللَّحْد، وهو الشَّقُّ في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط. ومنه: المُلْحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.

قال ابن السِّكِّيْت: الملحد المائل عن الحق المُدْخِل فيه ما ليس منه. ومنه الملتَحَد، وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) [الكهف: 27] أي: مَن تَعْدِل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عَدَلَ إليه.

إذا عُرِف هذا؛ فالإلحاد في أسمائه -تبارك وتعالى- أنواع:

أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهمِ اللات من الإِلهية، والعُزَّى من العزيز. وتسميتهم الصنمَ إلهًا، وهذا إلحاد حقيقةً فإنهم عَدَلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.

الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له: أبًا، وتسمية الفلاسفة له: موجبًا بذاته، أو عِلَّة فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك.

وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائض، كقول أخبث اليهود: إنه فقير.

وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه.

وقولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته …

ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية. وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمَّن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم: السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياةَ له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغة وفِطْرَة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما مُلْحِد في أسمائه ثم الجهميةُ وفروخُهم متفاوتون في هذا الإلحاد؛ فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئًا مما وصف اللهُ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد أَلحد في ذلك، فليستقلّ أو ليستكثر.

وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطِّلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبَّهوها بصفات خلقه، فجَمَعَهم الإلحادُ وتفرَّقت بهم طرقُه، وبرَّأ اللهُ أتباعَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وورثته القائمين بسنته عن ذلك كلِّه، فلم يصفوه إلا بما وصفَ به نفسَه، ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أُنزلت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شبَّه حتى كأنه يعبدُ صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عَدَمًا.

وأهلُ السنة وسطٌ في النِّحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في المِلَل، تُوْقَد مصابيحُ معارفهم من: (شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) [النور: 35]، فتسأل الله -تعالى- أن يهدينا لنوره ويسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب.


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 284 - 299)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله