‌‌ذِكْر مناظرةٍ بين فقيهين في طهارة المنيِّ ونجاستِهِ

قال مدِّعي الطَّهارة: المَنِيُّ مبدأُ خلقِ بشرٍ فكان طاهرًا كالتُّرَاب.

قال الآخر: ‌ما ‌أبعدَ ‌ما ‌اعتَبَرْتَ، ‌فالتُّرَاب وُضِعَ طَهورًا ومساعدًا لطهور في الوُلوغ، ويرفعُ حكمَ الحَدَثِ على رأي، والحَدَث نفسه على رأي، فأين ما يُتَطَهَّرُ به إلى ما يُتَطَهَّرُ منه، على أن الاستحالات تعملُ عملَها فأين الثَّواني من المبادئ؟ وهل الخمرُ إلا ابنةُ العنب؟ والمِنِيُّ إلا المُتَوَلِّدُ من الأغذية في المَعِدة ذات الإحالة لها. إلى النَّجاسة ثم لى الدَّم ثم إلى المَنِيّ؟

قال المُطَهِّرُ: ما ذكرتَهُ في التراب صحيح، وكونُ المني يُتَطَّهرُ منه لا يدلُّ على نجاسته، فالجماعُ الخالي من الإنزال يُتَطَّهرُ منه، ولو كان التَّطَهُّرُ منه لنجاسته لاختصَّتِ الطهارةُ بأعضاء الوضوء كالبول والدَّم، وأما كون التَّراب طَهورًا دون المَنِيِّ فلعدم تصوُّر التطهير بالمَنِيِّ، وكذلك مساعدته في الولوغ، فما أبعدَ ما اعتبرتَ من الفرْق وأغثَّهُ!!

وأما دعواكَ أن الاستحالة تعملُ عملَها فنعم، وهي تقلبُ الطيبَ إلى الخبيث، كالأغذية إلى البول والعَذِرَة والدَّم، والخبيث إلى الطيب، كدم الطمث ينقلب لَبَنًا، وكذلك خروج اللَّبن من بين الفَرْث والدَّم، فالاستحالة من أكبر حُجَّتنا عليك؛ لأن المَنِيَّ دم قصرته الشهوة وأحالته الحرارة من طبيعة الدَّم ولونه إلى طبيعة المَنِيِّ، وهل هذا إلا دليلٌ على مفارقته للأعيانِ النَّجِسَةِ وانقلابِه عنها إلى عينٍ أخرى، فلو أَعطيتَ الاستحالةَ حقَّها لحكمتَ بطهارته.

قال مُدَّعي النَّجاسة: المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وقد دلَّ الشرعُ على نجاسته حيث أمر بغسل الذَّكَر وما أصابه منه، وإذا كان مبدؤه نجسًا فكيف بنهايته؟! ومعلوم أن المبدأ موجودٌ في الحقيقة بالفعل.

قال المطَهِّر: هذه دعوى لا دليلَ عليها، ومن أين لك أن المَذْي مبدأ المَنِيِّ، وهما حقيقتان مختلفتانِ في الماهِيَّة والصِّفات والعوارض والرَّائحة والطبيعة، فدعواك أن المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وأنه مَنِيٌّ لم يَسْتَحْكمْ طبخُه، دعوى مجردة عن دليلٍ نقليٍّ وعقليٍّ وحِسِّي فلا تكون مقبولة، ثم لو سلَّمتُ لك لم يُفِدْك شيئًا ألبتَّةَ، فإنَّ للمبادئ أحكامًا تخالفُها أحكامُ الثواني، فهذا الدَّمُ مبدأُ اللبن، وحكمهما مختلفٌ، بل هذا المَنِيِّ نفسُه مبدأ الآدمي والآدميُّ طاهر العين، ومبدؤه عندك نَجِسُ العين، فهذا من أظهر ما يُفْسِدُ دليلَكَ ويوضح تناقُضَك، وهذا مَما لا حيلةَ في دفعه، فإن المَنِيَّ لو كان نجِسَ العين لم يكن الآدميُّ طاهرًا؛ لأن النجاسةَ عندَك لا تَطْهُرُ بالاستحالة، فلابُدَّ من نقض أحد أصليك، فإما أن تقولَ بطهارة المَنِيِّ، أو تقولَ النجاسةُ تطهرُ بالاستحالة، وأمَّا أن تقول: المَنِيُّ نجس، والنجاسةُ لا تطهر بالاستحالة ثم تقول مع ذلك بطهارة الآدمِيِّ، فتناقُضٌ مالَنا إلا النكيرُ له!!.

قال المُنَجِّسُ: لا ريبَ أن المَنِيَّ فضلةٌ مستحيلةٌ عن الغذاء، يخرجُ من مخرج البول، فكانت نجِسة كهو، ولا يَرِد عَلَيَّ البصاق والمخاط والدمع والعَرَق؛ لأَنها لا تخرجُ من مخرج البول.

قال المطهِّرُ: حكمُك بالنَّجاسة إما أن يكونَ للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين، فالأول باطلٌ إذ مجرَّدُ استحالة الفَضْلة عن الغذاء لا يوجبُ الحكمَ بنجاستها، كالدمع والمُخَاط والبُصَاق، وإن كان لخروجه من مخرج البول؛ فهذا إنما يفيدُك أنه متنجِّسٌ لنجاسة مجراه، لا أنه نَجِسُ العين، كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسدٌ، فإن المجرى والمقرّ الباطن لا يحكمُ عليه بالنجاسة، وإنما يحكمُ بالنَّجَاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخُبثِه وعينِه لا لمجراهُ ومقرِّهِ، وقد عُلِم بهذا بطلانُ الاستناد إلى مجموع الأمرين.

والذي يوضِّحُ هذا: أنَّا رأينا الفَضَلات المستحيلة عن الغذاء تنقسمُ إلى طاهر؛ كالبُصاق والعَرَق والمُخاط، ونجس كالبول والغائط، فدلَّ على أن جهة الاستحالة غيرُ مقتضيةٍ للنجاسة، ورأينا أن النَّجاسة دارتْ مع الخبث وجودًا وعدمًا، فالبولُ والغائط ذاتان خبيثتان مُنْتنتانِ مؤذيتانِ، مُتَمَيِّزَتانِ عن سائر فضلات الآدمي بزيادة الخَبَث والنَّتْن والاستقذار، تنفرُ منهما النفوس، وتنأى عنهما وتباعدهما.

عنها أقصى ما يمكنُ، ولا كذلك هذه الفَضْلة الشريفة التي هي مبدأُ خيار عباد الله وساداتهم، وهي من أشرفِ جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه، ومعها من رُوح الحياة ما تميَّزت به عن سائر الفضلات، فقياسُها على العَذِرة أفسدُ قياس في العالم وأبعدُه عن الصواب!!.

والله تعالى أحكمُ من أن يجعلَ مَحَالَّ وحيِه ورسالاته وقربِه مبادئهم نَجِسة، فهو أكرمُ من ذلك، وأيضًا: فإن الله تعالى أخبرَ عن هذا الماءَ وكرَّر الخبرَ عنه في القرآن، ووصفه مرَّة بعد مرَّة، وأخبر أنه دافق، وأنه (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، وأنه استودعه في (قَرَارٍ مَكِينٍ)، ولم يكنِ الله تعالى ليكرِّرَ ذكرَ شيءٍ كالعَذِرة والبول ويعيده ويبديه، ويخبر بحفظه في قرارٍ مكين، ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره، ولم يصِفْه بالمهانة إلا لإظهار قُدْرته البالغة أن خَلَقَ من هذا الماء الضعيف هذا البَشَرَ القوِيَّ السَّوِيَّ، فالمهينُ هاهنا: الضعيفُ، ليس هو النَّجِسَ الخبيث.

وأيضًا فلو كان المَنِيُّ نجسًا -وكلُّ نجس خبيث- لما جعله الله مَبْدأَ خَلْقِ الطَّيِّبينَ من عباده والطَّيِّباتِ، ولهذا لا يتكوَّنُ من البول والغائط طيِّبُ، فلقد أبعد النَّجعةَ من جعل أصولَ بني آدم كالبول والغائط في الخُبث والنجاسة، والناسُ إذا سبُّوا الرجل قالوا: "أصلُه خبيث، وهو خبيث الأصل"، فلو كانت أصولُ الناس نَجِسَةً -وكلُّ نجسٍ خبيثٌ- لكان هذا السب بمنزلة أن يقالَ: أصله  نطفةٌ أو أصلُه ماءٌ، ونحو ذلك، وإن كانوا إنما يريدون بخُبْث الأصل كون النُّطفة وُضِعتْ في غير حلها فذاك خَبَثٌ على خَبَث، ولم يجعل اللهُ تعالى في أصول خواصِّ عباده شيئًا من الخبث بوجهٍ ما.

قال المنجِّسون: قد أكثرتم علينا من التَّشنيع بنجاسة أصل الآدمي وأطلتم القولَ، واعترضتم، وتلك الشَّناعَةُ مشتركةُ الإلزام بينَنا وبينَكم، فإنه كما أن الله تعالى يجعلُ خواصَّ عباده ظروفًا وأوعية للنجاسة كالبول والغائط والدم والمَذْي، ولا يكونُ ذلك عائدًا عليهم بالعيب والذَّمِّ، فكذلك خلقُه لهم من المَنِي النَّجِس وما الفرق؟!.

قال المطهِّرون: لقد تعلَّقتم بما لا متعلَّق لكم به، واستروحتم إلى خيال باطل، فليسوا ظروفًا للنجاسات ألبتَّةَ، وإنما تصيرُ الفضلةُ بولًا وغائطًا إذا فارقت محلَّها، فحينئذ يُحْكم عليها بالنجاسة، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيِّبٌ غير خبيث، وإنما يصيرُ خبيثًا بعد قذفه وإخراجه، وكذلك الدم إنما هو نجسٌ إذا سُفِح وخرج، فأما إذا كان في بَدَن الحيوان وعروقه فليس بنجس، فالمؤمن لا ينجسُ ولا يكون ظرفًا للخبائث والنجاسات.

قالوا: والذي يقطعُ دابرَ القول بالنَّجاسة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن الأُمَّهَ شديدةُ البَلْوى في أبدانهم وثيابهم، وفُرُشهم ولُحفهم، ولم يأمرهم فيه يومًا ما بغسل ما أصابه لا من بَدَن ولا من ثوب ألبتة، ويستحيلُ أن يكونَ كالبول، ولم يتقدَّم إليهم بحرف واحد في الأمر بغسْلِه، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع عليه.

قالوا: ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة، وقد ثَبَتَ عن عائشةَ أنها أنكرتْ على رجل أَعَارَتْهُ ملحفةً صفراءً فنام فيها، فاحتلمَ فغَسَلها، فأنكرتْ عليه غَسْلَها، وقالت: إنما كان يَكفِيه أن يفرُكَهُ بإصبعه ربما فركته من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصبعي.

ذكره ابنُ أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همَّام، قال: نزل بعائشة ضيف فذكره.

وقال أيضًا: حدثنا هُشَيم، عن مُغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لقد رأيتُني أجدُهُ في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحتُّه عنه، تعني: المني.

وهذا قول عائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم-.

قال ابن أبي شيبة: حدثنا هُشَيم، عن حُصَيْن، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجَنَابَةَ من ثوبه.

حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجنابَةَ من ثوبه.

حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حَبيب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس في المَنِي، قال: امْسَحْهُ بإذخِرَةً.

حدثنا هُشَيم، أنبأنا حجَّاج وابنُ أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس في الجنابة تصيب الثوب قال: إنما هو كالنُّخَامة أو النُّخَاعة أَمِطْهُ عنك بخِرقَةٍ أو بإذخِرَة.

قالوا: وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلُتُ المَنِيَّ من ثوبه بعرق الإذخِر ثم يصلِّي فيه، وتَحُتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يُصلي فيه.

وهذا صريحٌ في طهارته، لا يحتملُ تأويلًا ألبتة.

قالوا وقد روى الدِّارقطني من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، حدثنا شَريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المَنِيِّ يُصيبُ الثوبَ، قال: إنما هو بمنزلة البُصاق والمُخاط، وإنما يكفيكَ أن تمسحَهُ بخِرقة أو بإذْخِرَةٍ.

قالوا: وهذا إسناد صحيح، فإن إسحاقَ الأزرقَ حديثُه مخرّجٌ في "الصحيحين"، وكذلك شَرِيك، وإن كان قد عُلِّل بتفرد إسحاق الأزرق به فإسحاقُ ثقة محْتَجٌ به في "الصحيحين"، وعندكم تفرُّد الثقة بالزيادة مقبول.

قال المُنَجِّس: صحَّ عن عائشة أنها كانت تغسِلُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت عن ابن عباس أنه أمر بغسله.

قال أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا أجنبَ الرجلُ في ثوبه فرأى فيه أثرًا فليغسله، وإن لم يَرَ فيه أثرًا فلْيَنْضَحْهُ.

حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن طَلْحة بن عبد الله ابن عَوْف، عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: إن رأيتَ أَثَرَهُ فاغسِلْهُ، وإن علمت أن قد أصابه وخفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككتَ فلم تَدْرِ أصاب الثوبَ أم لا، فانْضَحهُ.

حدثنا عَبْدَةُ بن سليمان، عن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن خفي عليه مكانه وعَلِم أنه قد أصابه غسل الثوبَ كلَّه.

حدثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زُبَيْد بن الصَّلْت أن عمر ابن الخطاب غسل ما رأى، ونضح ما لم ير، وأعاد بعدما أضحى متمكِّنًا.

حدثنا وكيع، عن السَّرِيِّ بن يحيى، عن عبد الكريم بن رُشَيْد، عن أنس في رجل أجنب في ثوبه فلم ير أثره، قال: يغسله كلَّه.

ثنا حفص، عن أشعث، عن الحكم: أن ابن مسعود كان يغسل أثر الاحتلام من ثوبه.

حدثنا حسين بن علي، عن جعفر بن بَرْقان، عن خالد بن أبي عزة، قال: سأل رجلٌ عمرَ بن الخطاب فقال: إني احتلمتُ على طِنْفِسَة، فقال: إن كان رطْبًا فاغسلْه، وإن كان يابسًا فاحكُكْهُ، وإن خفي عليك فارشُشْه.

قالوا: وقد ثبت تسميةُ المَنِيِّ أذى، كما سُمِّي دم الحيض أذىً، والأذى هو النجس، فقال الطَّحَاوي: حدثنا ربيع الجِيزِي، حدثنا إسحاق بن بكر بن مُضَر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيْج، عن مُعاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أختَه أمَّ حَبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في الثوب الذي يضاجعُكِ فيه؛ قالت: نعم، إذا لم يُصِبْه أذى. وفي هذا دليلٌ من وجه آخرَ وهو تركه الصلاة فيه.

وقد روى محمد، عن عبد الله بن شَقيق، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَلِّي في لُحُف نسائه.

قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار الدَّالَّة على مسحه بإذخِرَةٍ وفركه فإنما هي في ثياب النوم لا في ثياب الصلاة.

قالوا: وقد رأينا الثياب النَّجسة بالغائط والبول والدَّم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوزُ الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المَنِيُّ كذلك.

قالوا: وإنما تكونُ تلك الآثارُ حجَّةً علينا لو كنا نقولُ: لا يصلح النومُ في الثوب النَّجِس، فإذا كنا نبيحُ ذلك ونوافقُ ما رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ونقولُ من بعد لا تصلحُ الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئًا مما رُوِيَ في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قالوا: وإذا كانت الآثارُ قد اختلفتْ في هذا الباب ولم يكن فيها دليلٌ على حكم المَنِيِّ كيف هو، اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فوجدنا خروج المَنِيِّ حَدَثًا من أغلظ الأحداث؛ لأنه يوجبُ أكبرَ الطهارات، فأردنا أن ننظر في الأشياءِ التي خروجُها حَدَثٌ كيف حكمُها في نفسها؛ فرأينا الغائطَ والبولَ خروجهما حَدَثٌ، وهما نَجِسان في أنفسهما، وكذلك دمُ الحيض والاستحاضة هما حَدَثٌ، وهما نَجسانِ في أنفسهما، ودم العروق كذلك في النظر، فلما ثبت بما ذكرنا أن كلَّ ما خروجه حَدَثٌ فهو نَجِسٌ في نفسه، وقد ثبت أن خروجَ المَنِيِّ حدثٌ، ثبت أيضًا أنه في نفسه نَجِس، فهذا هو النظر فيه.

قال المُطَهِّرُ: ليس في شيءٍ مما ذكرتَ دليلٌ على نجاسته، أما كون عائشة كانت تغسلُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا ريبَ أن الثوب يُغْسلُ من القدر والوسخ والنجاسة، فلا يدلُّ مجرد غسل الثوب منه على نجاسته، فقد كانت تغسلُه تارة، وتمسحُه أخرى، وتفركُه أحيانًا، ففرْكُه ومسْحُه دليلٌ على طهارته، وغسْلُه لا يدلُّ على النجاسة، فلو أعطيتم الأدِلَّةَ حقَّها لعلمتُم تَوَافُقَها وتَصَادُقَها، لا تناقُضَها واختلافَها.

وأما أمر ابن عباس بغسله؛ فقد ثبت عنه أنه قال: إنما هو بمنزلة المُخاط والبُصاق، فأمِطْه عنك ولو بإذْخِرَةٍ، وأمره بغسله للاستقذار والنَّظافة، ولو قُدِّر أنه للنَّجاسة عندَه، وأن الرواية اختلفت عنه، فتكون مسألة خلاف بين الصحابة، والحجَّةُ تفصلُ بين المُتنازعين، علي أنَّا لا نعلمُ عن صحابيٍّ واحدٍ أنه قال: إنه نَجِسٌ ألبتة، بل غاية ما يروونه عن الصحابة غَسْلَه فعلًا وأمرًا، وهذا لا يستلزمُ النجاسة، ولو أخذتمُ بمجموع: الآثار عنهم لدلَّت على جواز الأمرين: غسله للاستقذار، والاجتزاء بمسحه رَطْبًا وفركِهِ يابسًا كالمُخاط.

وأما قولكم: ثبتَ تسميةُ المَنِيِّ أذى؛ فلم يثبت ذلك، وقول أم حبيبة: "ما لم يَرَ فيه أذَىً"، لا يَدُلُّ على أن مرادَها بالأذى المَنِيُّ، لا بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا التزام، فإنها إنما أخبرت بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي في الثوب الذي يضاجعُها فيه ما لَمْ يُصِبْه أذى ولم تَزِدْ.

فلو قال قائل: المُراد بالأذى دمُ الطمث؛ لكان أسعدَ بتفسيره منكم. وكذلك تركه الصلاة في لُحف نسائه، لا يدلُّ على نجاسة المَنِيِّ ألبتة، فإن لحافَ المرأة قد يصيبهُ من دم حيضِها وهي لا تشعرُ، وقد يكون التَّرْك تَنَزُّهًا عنه، وطلب الصلاة على ما هو أطيبُ منه وأنظفُ، فأين دليلُ التنجيس؟!.

وأما حملُكم الآثارَ الدَّالة على الاجتزاء بمسحه وفركه على ثياب النوم دونَ ثياب الطهارة؛ فنُصْرة المذاهب توجبُ مثلَ هذا، فلو أعطيتم الأحاديثَ حَقَّها، وتأمَّلْتُم سياقَها وأسبابَها لجزمْتُمْ بأنَّها إنما سيقتْ لاحتجاج الصحابة بها على الطَّهارة وإنكارهم على من نَجَّسَ المَنِيَّ.

وقالت عائشة: كنت أفركُهُ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه، وفي حديث عبد الله بن عباس مرفوعًا وموقوفًا: إنما هو كالمخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة.

وبالجملة؛ فمن المحال أن يكون نَجِسًا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعلمُ شدَّةَ ابتلاءِ الأمَّةِ به في ثيابهم وأبدانهم، ولا يَأمرُهم يومًا من الأيام بغسله، وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه.

وأما قولكم: إن الآثار قد اختلفتْ في هذا الباب، ولم يكنْ في المَرْوِيِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان حكم المَنِي، فاعتبرتم ذلك من طريق النظر؛ فيقال: الآثار بحمد الله في هذا الباب متَّفِقَةٌ لا مختلفة، وشروط الاختلاف منتَفِيَةٌ بأسرها عنها، وقد تقدَّم أن الغَسْل تارة والمسح والفَرْك تارةً جائزٌ، ولا يدُلُّ ذلك على تناقُضٍ ولا اختلافٍ ألبتة.

ولم يكنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَكِلَ أمَّتَهُ في بيان حكم هذا الأمر المهم إلى مجرد نظرها وآرائها، وهو يعلِّمُهم كلَّ شيء، حتى التَّخَلِّي وآدابه، ولقد بيَّنت السُّنَّةُ هذه المسألةَ بيانًا شافيًا، ولله الحمد.

وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه؛ فنظرٌ أعْشى؛ لأنكم أخذتم حكمَ نجاسته من وجوب الاغتسال منه، ولا ارتباطَ بينهما، لا عقلًا ولا شرعًا ولا حِسًّا، وإنما الشارعُ حَكَم بوجوب الغسل على البَدَن كلِّه عند خروجه، كما حَكَم به عند إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، ولا نجاسةَ هناك ولا خارج، وهذه الريحُ توجب غَسْل أعضاء الوضوء وليست نَجِسَةً، ولهذا لا يُسْتَنْجَى منها ولا يُغْسَلُ الإزار والثوبُ منها، فما كلُّ ما أوجب الطهارةَ يكون نجسًا، ولا كلُّ نجسٍ يوجِبُ الطهارةَ أيضًا، فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلُّوا بعد خروج دمائهم في وقائعَ متعدِّدة، وهم أعلمُ بدين الله من أن يُصَلُّوا وهم محدِثون، فظهر أن النظرَ لا يوجِبُ نجاستَه، والآثار تدُلُّ على طهارته، وقد خلق الله تعالى الأعيان على أصل الطهارة، فلا ينجسُ منها إلا ما نجَّسه الشرعُ، وما لم يُعْلَم تنجيسُه من الشرع فهو على أصل الطهارة، والله أعلم.


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (3/ 1040 - 1052)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله