المعاصي توجب ‌القطيعة ‌بين ‌العبد وبين ربه تبارك وتعالى

 

ومن أعظم عقوباتها: أنها توجب ‌القطيعة ‌بين ‌العبد وبين ربه تبارك وتعالى، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشرّ. فأيّ فلاح وأيّ رجاء وأيّ عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبيّن وليّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين، ولابدّ له منه، ولا عوض له عنه، واتصلت به أسباب الشر، ووصل ما بينه وبيّن أعدى عدوّ له، فتولّاه عدوّه، وتخلّى عنه وليّه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب!

قال بعض السلف: رأيتُ العبد مُلقًى بين الله سبحانه وبيّن الشيطان، فإن أعرض الله عنه تولّاه الشيطان، وإن تولّاه الله لم يقدر عليه الشيطان.

وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلَاً} [الكهف: 50].

يقول سبحانه لعباده: أنا أكرمتُ أباكم، ورفعت قدره، وفضّلته على غيره، فأمرتُ ملائكتي كلّهم أن يسجدوا له تكريمًا وتشريفًا، فأطاعوني، وأبى عدوّي وعدوّه، فعصى أمري، وخرج عن طاعتي. فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذوه وذريته أولياء من دوني، فتطيعونه في معصيتي، وتوالونه في خلاف مرضاتي، وهم أعدى عدو لكم؟ فواليتم عدوّي، وقد أمرتكم بمعاداته.

ومن والى أعداء الملِك كان هو وأعداؤه عنده سواء، فإنّ المحبة والطاعة لا تتمّ إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه. وأمّا أن توالي أعداءَ الملِك ثم تدّعي أنّك موالٍ له، فهذا محال. هذا لو لم يكن عدوُّ الملك عدوًّا لكم، فكيف إذا كان عدوًّا لكم على الحقيقة، والعداوةُ التي بينكم وبينه أعظمُ من العداوة التي بين الشاة والذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوَّه وعدوَّ وليّه ومولاه الذي لا مولى له سواه؟

ونبّه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]، كما نبّه على قبحها بقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. فتبيّن أنّ عداوته لربّه وعداوته لنا، كلٌّ منهما سببٌ يدعو إلى معاداته، فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال؟ بئس للظالمين بدلا!

ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوعٌ من العتاب لطيفٌ عجيبٌ، وهو أنّي عاديتُ إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي، فكانت معاداتُه لأجلكم، ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة!


الداء والدواء = الجواب الكافي - ط عطاءات العلم (1/ 196 - 199)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله