دلالة حديث: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" على تحقيق القدر وإثباته

 

‌‌الباب السادس والعشرون: فيما دلّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني ‌أعوذ ‌برضاك ‌من ‌سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» … من ‌تحقيق ‌القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة

قد دلّ هذا الحديث الشريف العظيم القدر على أمور:

منها: أنه يُستعاذ بصفات الربّ تعالى كما يُستعاذ بذاته، وكذلك يُستغاث بصفاته كما يُستغاث بذاته، كما في الحديث: «يا حيُّ يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك».

وكذلك قوله في الحديث الآخر: «أعوذ بعزّتك أن تضلني»، وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات، وبوجهه الكريم وبعظمته.

وفي هذا ما يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية؛ إذ لا يُستعاذ بالعدم وأنها قائمة به غير مخلوقة؛ إذ لا يُستعاذ بالمخلوق، وبهذا احتج الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن كلمات الله غير مخلوقة، وهو احتجاج صحيح؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق، ولا يستغيث به، ولا يدلّ أمته على ذلك.

ومنها: أن العفو من صفات الفعل القائمة به، وفيه ردٌّ على من زعم أن فعله عين مفعوله؛ فإن المفعول مخلوق ولا يُستعاذ به.

ومنها: أن بعض صفاته وأفعاله سبحانه أفضل من بعض؛ فإن المُستعاذ به منها أفضل من المُستعاذ منه، وهذا كما أن صفة الرحمة أفضل من صفة الغضب، ولذلك كان لها الغلبة والسبق.

وكذلك كلامه سبحانه هو صفته، ومعلوم أن كلامه الذي يُثْنِي به على نفسه، ويَذْكُر فيه أوصافه وتوحيده؛ أفضلُ من كلامه الذي يذم به أعداءه، ويذكر أوصافهم.

ولهذا كانت سورة «الإخلاص» أفضل من سورة «تبّت»، وكانت تعدل ثلث القرآن دونها، وكانت آية الكرسي أعظم آية في القرآن.

ولا تُصغِ إلى قول من غَلُظ حجابُه: إن الصفات قديمة، والقديم لا يتفاضل؛ فإن الأدلة السمعية والعقلية تبطل قوله.

وقد جعل سبحانه ما كان من الفضل والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى، وما كان من العدل والقبض باليد الأخرى، ولهذا جعل أهل السعادة في قبضته اليمنى، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى، والمقسطون على منابر من نور عن يمينه، والسماوات مطويات بيمينه، والأرض باليد الأخرى.

ومنها: أن الغضب والرضا والعفو والعقوبة لمّا كانت متقابلة استعاذ بأحدهما من الآخر، فلما جاء إلى الذات المقدّسة التي لا ضدّ لها ولا مقابل قال: «وأعوذ بك منك»، فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العفو من فعل العقوبة، وبالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه، وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الذي يُستعاذ منه من الشرّ وأسبابه هو واقع بقضاء الرب تعالى وقدره، وهو المتفرّد بخلقه وتقديره وتكوينه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

فالمُستعاذ منه: إما وصفه، وإما فعله، وإما مفعوله الذي هو أثر فعله، والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر، ولا يضر إلا بإذن خالقه، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد ــ وهو السحر ــ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فالذي يُستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضًا وقضائه وقدره، فهو المعيذ من قدره بقدره، ومِن ما مصدره عن مشيئته وإذنه بما مصدره عن مشيئته وإذنه.

والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية، فهو يعيذ من إرادته بإرادته؛ إذ الجميع خلقُه وقدَرُه وقضاؤه، فليس هناك خلق لغيره فيعيذ منه هو، بل المُستعاذ منه خَلْقٌ له، فهو الذي يعيذ عبدَهُ من نفسه بنفسه،، فيعيذه مما يريده به بما يريده به، فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ منها المستعيذ به، كما يستعيذ مَنْ ظَلَمه رجلٌ وقهرَهُ برجل أقوى منه أو نظيره.

فالمُستعاذ منه هو الذنوب وعقوباتها، والآلام وأسبابها، والسبب من قضائه، والمسبَّب من قضائه، والإعاذة بقضائه، فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه، فلم يُعِذ إلا بما قدّره وشاءه، وقدّر الاستعاذة منه وشاءها، وقدّر الإعاذة وشاءها، فالجميع قضاؤه وقدره وموجَب مشيئته.

فنَتَجَتْ هذه الكلمة ــ التي لو قالها غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبادر المتكلّم الجاهل إلى إنكارها وردّها ــ: أنه لا يملك الضر والنفع، والخلق والأمر، والإعاذة غيرك، وأنّ المُستعاذ منه هو بيدك، وتحت تصرفك، ومخلوق من خلقك، فما استعذتُ إلا بك، ولا استعذتُ إلا منك.

وهذا نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «لا مَلْجأ ولا مَنْجا منك إلا إليك»، فهو الذي ينجّي من نفسه بنفسه، ويعيذ من نفسه بنفسه، وكذلك الفرار؛ يفرّ عبده منه إليه.

وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر، وأنه لا ربّ غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، بل الأمر كله لله، ليس لأحد سواه منه شيء، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحبهم إليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال جوابًا لمن قال: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154].

فالمُلك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا ربّ سواه.

{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ} [الزمر: 38]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].

فاستَعِذْ به منه، وفِرَّ منه إليه، واجْعَل لَجَأك منه إليه؛ فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئًا، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سمٌّ ولا سحرٌ ولا شيطانٌ ولا حيوانٌ ولا غيرُهُ إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.

فأعرف الخلق به وأقومهم بتوحيده مَن قال في دعائه: «وأعوذ بك منك»، فليس للخلق مَعَاذ سواه، ولا مُسْتعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه، وتحت قهره وسلطانه.

ثم خَتَم هذا الدعاء بقوله: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»؛ اعترافًا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجلّ من أن يحصيها أحد من الخلق، أو بلغ أحدٌ حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه.

فهذا توحيد في الأسماء والصفات والنعوت، وذاك توحيد في العبودية والتألّه، وإفراده تعالى بالخوف والرجاء والاستعاذة، وهذا يضاده الشرك، وذاك يضاده التعطيل، وبالله التوفيق.


شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 351 - 356)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله