مسائل تتعلق بالرفع في الصلاة وكيفيته وابتدائه وانتهائه

وهذه مسائل تتعلق بالرفع وكيفيته وابتدائه وانتهائه، ذكرناها ليكون الكتاب جامعًا لأحكام هذه المسألة كافيًا في معناه.

‌‌المسألة الأولى: لا تختلف الرِّواية عن أحمد أن رفع اليدين في المواطن الثلاثة يطلق عليه أنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهل يُطْلَق على تاركه أنه تاركٌ للسنة؟ فيه عن أحمد روايتان:

إحداهما: أنه تارك للسنة، قال في رواية جعفر بن محمد: من ترك رفع اليدين في الصلاة ترى أنه قد ترك سنةً من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم.

وقال في رواية أبي نصر العجلي، وقد سأله عمن ترك رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وبعدما يرفع رأسه أيكون قد ترك سنةً؟ قال: أخشى ذلك أو نحوه.

وقال في رواية أبي بكر المرُّوذي ــ وقد سأله تقول: من ترك الرفع يكون تاركًا للسنة ــ قال: لا نقول هكذا، ولكن نقول: راغب عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال القاضي في «الجامع»: فظاهر هذا أنه توقَّف عن إطلاق ذلك، وليس هذا على طريق المنع وإنما هو على طريق الاختيار في العبارة، يعني تحسين اللفظ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن رَغِب عن سُنتي فليس مِني». فسمى تارك السنة: راغبًا عنها، فأحبَّ أحمد اتباع لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإلَّا فالراغب في التحقيق هو التارك.

وفي كتاب «العلم» للخلال: قيل لأحمد: إنْ تَرَك الرفع يكون تاركًا للسنة؟ فقال: لا تقل هكذا، ولكن قد رغب عن فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

 

‌‌المسألة الثانية: هل يطلق على تاركه اسم البدعة أم لا؟

فقال القاضي في «الجامع الكبير» له: قد أطلق أحمدُ القولَ بأنّ تاركه مبتدع، فقال في رواية محمد بن موسى وقد سأله رجل خراسانيّ: إنّ عندنا قومًا يأمرونا برفع اليدين في الصلاة وقوم ينهون عنه؟ فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فَعَل ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.

فقد أطلق اسم البدعة عليه.

قال القاضي: والوجه فيه ما تقدَّم من حديث ابن عمر أنّه كان إذا رأى مصلِّيًا لا يرفع يديه في الصلاة حَصَبه. وهذا مبالغة، ولأن رفع اليدين في تكبيرة الإحرام مجمع عليها. قاله ابنُ المُنذر في «خلافه» قال: «لم يختلف أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، واختلفوا في الحدِّ الذي يرفع إليه». وإذا كان مُجْمعًا عليه فمُنْكِره يكون مبتدعًا لمخالفته الإجماع.

 

‌‌المسألة الثالثة: هل يُهْجَر من تركه أو أُمِرَ به فلم يفعله أم لا؟

قال الخلال في كتاب «العلم»: «سُئل أحمد عن رجل يؤمّ قومًا يخالف في صلاته أحاديث جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل رفع اليدين، فقال: أَخْبِره وعلِّمْه، قيل: إن أخبرته فلم ينته، قال: إن أخبرته عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبل فاهجره».

وقيل لأحمد: عندنا قوم يأمرونا برفع اليدين في الصلاة، وقوم ينهونا عنه، فقال: لا ينهاك إلا مبتدع، فَعَل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابن عمر يَحْصب من لا يرفع.

 

‌‌المسألة الرابعة: هل يُطلَق على الرّفع أنّه من تمام الصلاة أم لا؟

قال القاضي: نقل الجماعة عن أحمد جواز إطلاق ذلك، فقال في رواية أحمد بن الحسين بن حسان في الرفع في الصلاة: هو من تمام الصلاة. وكذلك قال في رواية أبي الحارث: رفع اليدين في الصلاة إذا ركع وإذا رفع من تمام الصلاة.

وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: من رفع فهو أتمّ ممن لا يرفع. فقد أطلق اسم التمام في هذه المواضع.

وقال في رواية أبي داود ــ وقد سئل: هو من تمام الصلاة؟ ــ فقال: تمام الصلاة لا أدري، لكن هو عندي في نفسه منقوص. وقال محمد بن سيرين: هو من تمام الصلاة.

قال القاضي: فقد توقَّف عن إطلاق ذلك في رواية أبي داود، وإنما توقف عن ذلك على نحو ما يقوله محمد بن سيرين، وأنه من تمام صحتها؛ لأنه قد حُكي عنه أنه قال: من تركه يعيد. فتوقف أحمد عن القول بذلك، ولم يتوقف عن القول بالتمام الذي هو تمام فضيلة وكمال واستحباب وسنة؛ لأنه قد صرَّح به في غير موضع.

 

‌‌المسألة الخامسة: أنه يستحبّ له أن يمدَّ أصابعه، ويضمَّ بعضها إلى بعض عند الرفع. هذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبي حنيفة وعليّ بن المديني وإسحاق. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: الأفضل تفريقها، لما روى أحمد عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر نشر أصابعه.

وذكر الخلال في هذا الحديث: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه وفرَّج أصابعه.

وحُجَّة أصحاب القول الأول: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدًّا. قال الترمذي: هذا أصح من حديث يحيى بن يمان (يعني حديث النشر) قال: وحديثه خطأ.

قالوا: وأن يضمَّها مبسوطة مستقيمة منتصبة نحو القبلة. وكذلك يستحبّ له أن يضعها حال السجود مبسوطةً مضمومة، ليكون أبلغ في استقبال القبلة بها. قالوا: وعلى هذا فمعنى «نَشْر الأصابع» ــ إن ثَبَت الخبرُ فيه ــ مدّها لا تفريقها، لأنه ضدّ الطِّيّ. ومن رواه: «فرَّج أصابعه» فخلاف الرواية المشهورة، والظاهر أنه عبارة بعض الرواة بالمعنى الذي ظنَّه واعتقَدَه.

 

‌‌المسألة السادسة: المستحبُّ أن يكون كفَّاه إلى جهة القبلة ولا يجعلهما إلى جهة أذنيه، نصَّ على ذلك أصحابنا والشافعية، وممن ذكره صاحب «التتمَّة».

وأما ما يفعله كثير من العامَّة من استقبال الأذنين بالكفين والأصابع فخلاف السنة، فإن الرّفع عبوديَّة اليدين كما تقدم، فينبغي أن يستقبلَ القبلةَ بهما كما يستقبلها بجملة بدنه، ولهذا يستقبل القبلة بهما في ركوعه وسجوده، ويستقبلها بأطراف أصابع رجليه، كما في حديث أبي حُميد الساعدي في وصفه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واستقبلَ بأطراف أصابعه القبلة».

 

‌‌المسألة السابعة: في ابتداء الرَّفع متى يكون؟

فالمنصوص عن أحمد أنه يبتدئه مع ابتداء التكبير وينهيه مع انتهائه. وهذا مذهب عليِّ بن المديني، والمنصوصُ عن الشافعي أنه يرفعهما مع ابتداء التكبير ويُثْبِتهما مرفوعتين حتى يفرغ منه، وذَكَر أصحابه في ذلك خمسة أوجه هذا أحدها، وصحَّحه البغويّ.

والثاني: أنه يرفع غير مكبّر، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين وينهيه مع انتهائه.

قلت: وهو خلاف منصوص الشَّافعي، فإنه قال: «ويرفع يديه حَذْو منكبيه حين يبتدئ التكبير، ويضع راحتيه على ركبتيه»، وقال في الافتتاح: «ويرفع يديه إذا كبَّر حَذْو منكبيه».

والثالث: يبتدئ الرّفع مع ابتداء التكبير وينهيهما معًا.

والرابع: يبتدئ الرّفع والتكبير معًا وينهي التكبير مع انتهاء الإرسال.

والخامس: وهو الذي صحّحه جماعة منهم الرّافعي والنواوي وغيرهما: أنه يبتدئ الرّفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء.

وقال إسحاق بن راهويه: إن شاء رفع مع التكبيرة، وإن شاء رفعهما ثم أثبتهما فكبر ثم أرسلهما، قال: وهو أحبّ إليّ.

وذلك لما في «الصحيحين» عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسَه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد».

وروى أبو داود في «سننه» عن وائل بن حُجْر أنه أبصر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه ثم كبّر.

قال الحنابلة: روى الإمام أحمد وأبو داود عن وائل بن حُجر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبير.

قالوا: وروى البخاري والنسائي عن ابن عمر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه.

وروى حَرْب في «مسائله» عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفعهما مع التكبير.

قال أبو البركات ابن تيميَّة: والذي يَقوى عندي التخييرُ بصفة التسوية بين الأمرين؛ لورود السنة بهما من غير ترجيح.

 

‌‌المسألة الثامنة: إلى أين يستحبّ أن يبلغ بيديه عند الرَّفع؟

قال القاضي: «فيه ثلاث روايات عن أحمد:

أحدها: يرفعهما حَذْو مَنْكبيه، نصّ عليه في مواضع من قوله وفعله:

أما قوله؛ فقال في رواية الأثرم: أما أنا فأذهب إلى المنكبين لحديث ابن عمر. وقال في رواية صالح وإسحاق بن إبراهيم: حذو منكبيه إذا كبّر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الرّكوع.

وأما فعله؛ فقال أحمد بن أَصْرم المُزَني: رأيتُ أبا عبد الله يرفع يديه في كلّ خفض ورفع يحاذي منكبيه.

وقال الحسن بن محمد الأنماطي: رأيت أبا عبد الله إذا كبّر في الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الرّكوع.

وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق.

والروايةُ الثانية: يرفعهما حتى يحاذي أذنيه، نصّ عليه في مواضع من قوله وفعله:

أما قوله؛ فقال في رواية الفضل بن زياد: ــ وقيل له: إلى أيّ موضع يرفع يديه؟ ــ قال: إلى فروع الأذنين.

وقال في رواية أبي الحارث ــ وقد سأله إذا افتتح الصلاة إلى أين يرفع يديه؟ ــ قال: يرفعهما إلى فروع أذنيه، وقال: الذي اختار له أن يجاوز بهما أذنيه، وقال: أذهبُ فيه إلى حديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه رفع يديه حتى يجاوز بهما أذنيه. قال: ورأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يجاوز بهما أذنيه.

وقال في رواية حرب ــ وقد سأله إلى أين يرفع عند الافتتاح؟ ــ فقال: إلى فروع الأذنين على حديث مالك بن الحويرث.

وأما فعله؛ فقال الفضل بن زياد: رأيتُ أحمد … يرفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الرّكوع.

وقال أبو طالب: رأيت أحمد يرفع يديه في الصلاة إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا قال: «سمع الله لمن حمده» إلى فروع أذنيه، وربما رفع إلى منكبيه، وربما رفعهما إلى صدره، ورأيت الأمر عنده واسعًا.

وقال أبوالحارث: رأيت أبا عبد الله يرفع حتى يحاذي بهما أذنيه. وهذه الرواية ......

قال في كتاب «الخلاف»: تواترت الرّواية عن أبي عبد الله من قوله وفِعْله: أن الأحبّ إليه إلى فروع يعني أذنيه، وإن رفعهما إلى المنكبين فهو عنده جائز، وبهذا قال أبو حنيفة.

والرواية الثالثة: أنه بالخيار إن شاء رفع إلى المنكبين، وإن شاء إلى الأذنين. نصَّ عليه في رواية أبي طالب فقال: من شاء إلى المنكبين، ومن شاء إلى الأذنين. روى مالك بن الحُويرث: إلى فروع الأذنين، وروى ابن عمر: حتى يحاذي منكبيه كلما …

فظاهر هذا أنهما سواء في الفضل عنده، وهو اختيار الخِرَقي؛ لأنه قال: «ويرفع يديه إلى فروع أذنيه أو إلى حذو منكبيه» فخيَّر.

واختاره أبو حفص، فإنه قال: في ذلك روايتان، ثم قال: وكلاهما موافق للسنة. قال أبو بكر بن المنذر: وبه قال بعض أصحاب الحديث.

ثم قال: وهذا مذهبٌ حسن، وأنا إلى حديث ابن عمر أَمْيَل». انتهى كلامه.

قلت: وقد حكى الغزالي عن الشافعي ثلاثة أقوال، وأنكرها عليه غير واحد، قالوا: ومذهبه أن يحاذي بأطراف أصابعه أعلى أذنيه، وبإبهاميه شَحْمتي أذنيه، وبكفيه منكبيه.

قالوا: وهذا معنى قول الشافعي.

قال أصحابُ الأذنين: روى مالك بن الحُويرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبّر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، وقال: «سمع الله لمن حمده» فَعَل مثل ذلك.

رواه مسلم في «صحيحه» أيضًا عن وائل بن حُجر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ــ حين دخل في الصلاة وكبر ــ حيال أذنيه.

وفي «مسند أحمد» عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه حذو أذنيه. وفي «المسند» أيضًا عن عبد الله بن الزبير قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح الصلاة فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه.

قالوا: وهذه الرواية راجحة على رواية الرفع إلى المنكبين؛ لاشتمالها على زيادة، فيجب قبولها.

قال أصحاب المَنْكِبين: ثبت في «الصحيحين» عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا بحذو منكبيه ثم يكبِّر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد».

وفي «سنن أبي داود» عن وائل بن حُجر أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم كبر.

وفي «سنن أبي داود» والترمذي عن أبي حُميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعلمكم بصلاته، كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. قالوا: صدقت.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قالوا: وقد روى الرفع إلى المنكبين عليٌّ، وأبو هريرة، وحديثهما في «سنن أبي داود».

قالوا: وهذه النصوص راجحة بقوّتها وصحّتها على الرواية إلى الأذنين. قاله إسحاق وابن المديني، ولذلك اتفق البخاري ومسلم على إخراج بعضها، ولم يخرج البخاري في «صحيحه» الرفعَ إلى الأذنين، وإنما انفرد به مسلم.

قالوا: ورواتها أكثر، لأنهم عليّ وأبو هريرة وابن عمر، وأبو حُميد في عشرة من الصحابة. ثم إنهم من أكابر الصحابة، وكان موضعهم من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقرب، وملازمتهم له أكثر، فيكونون أحفظ وأضبط من غيرهم، ويعلم أنَّ ما نقلوه هو الغالب على فعله - صلى الله عليه وسلم -، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حُجر وَفَدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجعا إلى مكانهما ولم يكن لهما ملازمةُ عليٍّ وابنِ عمر وأبي هريرة وأبي حُميد في عشرة من الصحابة.

ثم قد اخْتُلف عنهما وعن البراء في ذلك، ففي «مسند أحمد» عن وائل: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لأنظرنّ كيف يصلي، فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى كانتا حذو منكبيه.

وفيه أيضًا عن مالك بن الحُويرث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يجعلهما قريبًا من أذنيه، وفي لفظٍ للدارقطني: «حذو منكبيه».

وفي «سنن سعيد بن منصور» عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه.

قالوا: فاختلفت الروايات عن هؤلاء، ولم تختلف الرواية عن ابن عمر وأبي هريرة وعلي وأبي حميد، فالأخذ بها أولى.

قال المخيّرون: ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلا الأمرين، فالأَولى اتباع جميع الأحاديث، و تخيير المصلي بين الأمرين، ولا وجه لردِّ الأحاديث بعضها ببعض، كما يُخَيّر بين أنواع الأذان، والاستفتاح، وأنواع الوتر، وأنواع التشهّدات، فهذا الواجب في العمل بالسنن.

قال الجامعون: يمكن الجمع بين الرِّوايات كلّها وعدم التعارض بينها، فمن ذكر المنكبين أراد أصول الأصابع، ومن ذكر فروع الأُذنين أراد رؤوسها، ومن ذكر حِيال الأذنين أراد وسط الكفّ، فمن رفع يديه كذلك فقد رفعهما إلى فروع أذنيه وإلى منكبيه وإلى حيال أذنيه. وحُكِيَ هذا الجمع عن الشافعي وغيره، والأمرُ قريب. والله أعلم.

 

‌‌المسألة التاسعة: رفع اليدين في الفَرْض والنّفْل سواء، ولا خلاف فيه عند القائلين به، إذ الأصل التسوية.

 

‌‌المسألة العاشرة: يستحبُّ الرفع لمن صلى جالسًا، كما يستحبّ لمن صلى قائمًا، صرَّح به أصحاب أحمد والشافعي.

 

الحادية عشر: إذا نسي الرفعَ حتى فات محلُّه لم يأت به بعده؛ لأنه سُنَّة فاتَ محلّها، فهي كالاستفتاح والاستعاذة إذا نسيهما، وكذلك إذا نسي الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأُول لم يأت به فيما بعدها، وكذلك كلُّ سنة فات محلُّها.

 

الثانية عشر: إذا عَجَز عن الرَّفع المسنون فَعَل منه ما يمكنه، فإن لم يمكنه إلا بزيادة عليه رفع يديه وإن جاوزه؛ لأنه لا يمكن أن يأتي بالسنة إلا بزيادة فاغْتُفِرَت.

 

الثالثة عشر: إذا عَجَز عن رفع إحدى يديه رفع الأخرى، وكذلك إذا كان أقطع، لأن المَعْجوز عنه إذا سقط في الواجب ففي المستحبِّ أولى.

 

الرابعة عشر: إذا رفعهما من الرّكوع واعتدل قائمًا، فهل يرسلهما في حال قيامه أو يأخذ شماله بيمينه؟ قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: كيف يضع الرّجل يديه بعدما يرفع رأسه من الرّكوع أيضع اليمنى على شماله أم يسدلها؟ فقال: أرجو أن لا يضيق ذلك إن شاء الله.

قال القاضي: فظاهر هذا أنه مُخيَّر في الوضع والإرسال، فإن اختار الوضع جاز؛ لأنها حالةُ قيامٍ في الصلاة فأشبه ما قبل الرّكوع، وإن اختار الإرسال جاز؛ لأنّها حاله بعد الرُّكوع، أشبه حالة السجود والجلوس.

 

الخامسة عشر: إذا قرأ سجدةً فسجد، هل يرفع يديه عند انحطاطه للسجود؟ فيه عن أحمد روايتان:

أحدهما: لا يرفعهما. قال الأثرم: ذكرتُ لأبي عبد الله الرّجل يقرأ السّجدة ويرفع يديه إذا أراد السجود، فلم يعرفه.

وقال أبو طالب: قلت لأحمد: إذا قرأ السجدة وهو في الصلاة فسجد، يرفع يديه؟ قال: نعم.

وجه الأولى: أنه تكبير للسجود فلم يُسنّ له الرّفع، كالسجود الرّاتب في الصلاة.

ووجه الثانية: أنها تكبيرة في محلّ القراءة، وذلك قبل الرّكوع، فهي مفعولة في محلٍّ تدرك بإدراكه الرّكعة، ولأنه تكبير لسجود القرآن فسُنَّ الرَّفع فيه كخارج الصلاة. ومذهب أصحاب الشافعيّ أنه لا يستحبّ الرّفع في الصلاة.

 

السادسة عشر: إذا قنتَ في الوتر وفرغ وكبّر للسجود، فهل يرفع يديه؟

قال أبو داود: رأيت أحمد إذا فرغ من القنوت وأراد أن يسجد رفع يديه كما يرفعهما عند الرّكوع.

وقال حُبَيش بن سِنْدي: إن أبا عبد الله لما أراد أن يسجد في قنوت الوتر رفع يديه.

قال القاضي: ووجه هذا أن القنوت ذِكْرٌ طويل يُفْعَل حالَ القيام فهو كالقراءة، وقد ثبت أنه يرفع للتكبير عقيب القراءة، فكذلك التكبير عقيب القنوت.

السابعة عشر: يستحبّ رفع اليدين في صلاة الكسوف والاستسقاء والجنازة والعيدين. قال في رواية المرُّوذي، وجعفر بن محمد: يرفع اليدين إذا افتتح، وإذا ركع، وإذا رفع رأسَه، وكذلك الفطر والأضحى والجنازة، وقد نصّ في رواية أبي طالب على أنه إذا قرأ السجدة في الصلاة فسجد يرفع يديه، وقد تقدم.

وذكر الأثرم في «سننه» عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد، وهذا مذهب الشافعي.

وذكر الدارقطنيّ أن مروان أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سنة الاستسقاء؟ فقال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين.

وقد ثبتَ عن الصحابة رفع اليدين في تكبيرات العيدين.

الثامنة عشر: هل يستحبّ للمرأة رفع اليدين؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: أنه يُسنّ لها ذلك كالرّجل، وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، فإنه قال في رواية حنبل

ــ وقد سأله: ترفع المرأة في الركوع والسجود كما يرفع الرجل؟ ــ قال: نعم، ولا ترفع كالرّجل، دون ذلك.

ووجه هذا عموم الأدلة المسوِّية بين الرّجل والمرأة.

وروى سعيد بن منصور عن أمّ الدرداء: أنها كانت ترفع يديها في الصلاة حَذْو منكبيها.

والقول الثاني: أنه لا يُسنّ لها ذلك، وهو الرواية الثانية عن أحمد، فإنه نقل عنه يوسف بن موسى، وأحمد بن حسين بن حسّان: في المرأة ترفع يديها إذا ركعت وإذا رفعت؟ فقال: ما سمعنا بل الرّجل، فإن فعلت فلا بأس.

قال القاضي: وظاهر هذا أنّه رآه فِعلًا جائزًا، ولم يره مسنونًا في حقِّها؛ لأنَّه قال: ما سمعنا، أي: ما سمعناه مسنونًا.

قلت: وهناك رواية عن أحمد ذكرها القاضي في «جامعه» وأبو البركات في «شرحه»، قال أبو البركات: رواية حنبل أنها ترفع دون رفع الرَّجُل إلى نحو الثديين. قال: وبه قال حماد وأبو حنيفة …، وهو أوسط الأقوال وأقرب إلى رفع محذوري التجافي وحرمانها هذه السنة.

قلت: وقد قال عاصم الأحول: رأيت حفصة بنت سيرين تصلي، فإذا ركعت رفعت يديها عند ثدييها.

وحجَّة من لم يستحبّ لها الرَّفع: أن المرأة تخالف الرّجل في الهيئات، ولهذا لا تجافي ولا تفترش ولا ترفع صوتها بتكبير ولا قراءة، فكذلك رفع اليدين.

ومن استحبَّه أجاب عن هذا بأن زمن التجافي والافتراش يطول، بخلاف زمن رفع اليدين فإنه يسير جدًّا، فهو بمنزلة حركة سائر بدنها، وهذا أرجح، والله أعلم.

ولنقتصر على هذا القَدْر بعد الاعتذار ــ لمن عساه يقف على هذا الكتاب ــ بقلّة البضاعة، وتشتُّت العَزَمات، وكثرة الصوارف عن حقِّ العلم وموجبه، وقلة الأعوان وكثرة المعارضات، وكلٌّ من هذه مُعادٍ للعلم ولطلبه. فما كان في هذا الكتاب من خطأٍ وزلل؛ فمن نفسي ومن الشطان، والله بريء منه ورسوله. وما كان فيه من صواب؛ فمن الله وحدَه وهو المانُّ به، والمُلْهِم له، والمُعِين عليه، والفاتح لأبوابه، والميسِّر لأسبابه، ولم أقصد فيه إلا نُصرة الحق دون التعصّب واتباع الهوى، فإنهما يصدَّان عن الحقّ، ويحرمان الأجر، ويبعدان عن الله ورسوله، ويوجبان مقته، ويخرجان صاحبهما عن درجة الوراثة النبوية، ويدخلانه في أهل الأهواء والعصبية.

والله المسؤول أن يوفّقنا وسائر إخواننا لما يحبُّه ويرضاه من القول والعمل، والنية والهدى، إنَّه قريب مجيب، والحمد لله ربّ العالمين.


رفع اليدين في الصلاة (1/ 274 - 298)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله