في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حرِّ المصيبة وحزنها
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. وفي «المسند» عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «ما من أحدٍ تصيبه مصيبةٌ، فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللَّهمَّ أْجُرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها= إلا أَجَرَه الله في مصيبته، وأخلَفَ له خيرًا منها».
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنَّها تتضمَّن أصلين عظيمين، إذا تحقَّق العبد بمعرفتهما تسلَّى عن مصيبته:
أحدهما: أنَّ العبد وأهله وماله ملكٌ لله عز وجل حقيقةً. وقد جعله عند العبد عاريةً، فإذا أخذه منه فهو كالمُعِير يأخذ متاعَه من المستعير. وأيضًا فإنَّه محفوفٌ بعدمين: عدمٍ قبله، وعدمٍ بعده. وملكُ العبد له منفعة معارةٌ في زمنٍ يسيرٍ. وأيضًا فإنَّه ليس هو الذي أوجده عن عدمه حتَّى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يُبقي عليه وجودَه؛ فليس له فيه تأثيرٌ ولا ملكٌ حقيقيٌّ. وأيضًا فإنَّه متصرِّفٌ فيه بالأمر تصرُّفَ العبد المأمور المنهيِّ، لا تصرُّفَ المُلَّاك. ولهذا لا يباح له من التَّصرُّفات فيه إلا ما وافق أمرَ مالكه الحقيقيِّ.
والثَّاني: أنَّ مصيرَ العبد ومرجعَه إلى الله مولاه الحقِّ، ولا بدَّ أن يخلِّف الدُّنيا وراء ظهره، ويجيء ربَّه فردًا كما خلقه أوَّل مرَّةٍ، بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ، ولكن بالحسنات والسَّيِّئات. فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّلَه ونهايتَه، فكيف يفرح بموجودٍ، أو يأسى على مفقودٍ! ففكرُه في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الدَّاء.
ومن علاجه: أن يعلم علمَ اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23].
ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أصيب به، فيجد ربَّه قد أبقى عليه مثلَه أو أفضلَ منه، وادَّخر له ــ إن صبَر ورضِيَ ــ ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعافٍ مضاعفةٍ، وأنَّه لو شاء لجعلها أعظم ممَّا هي.
ومن علاجه: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التَّأسِّي بأهل المصائب، وَلْيعلَمْ أنَّه «في كلِّ وادٍ بنو سعدٍ». ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا محنةً؟ ثمَّ ليعطِفْ يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً؟ وأنَّه لو فتَّش العالم لم ير فيهم إلا مبتلًى إمَّا بفوات محبوبٍ أو حصول مكروهٍ.
وإنَّ سرور الدُّنيا «أحلام نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ». إن أضحكَتْ قليلًا أبكَتْ كثيرًا. وإن سرَّت يومًا ساءت دهرًا. وإن متَّعت قليلًا منعت طويلًا. وما ملأت دارًا حَبْرَة إلا ملأتها عَبْرةً، ولا سرَّته بيوم سرورٍ إلا خبَّأت له يومَ شرورٍ!
قال ابن مسعودٍ: لكلِّ فَرحةٍ تَرحةٌ، وما ملئ بيتٌ فرَحًا إلا ملئ ترَحًا.
وقال ابن سيرين: ما كان ضَحِكٌ قطُّ إلا كان من بعده بكاءٌ.
وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعزِّ النَّاس وأشدِّهم مُلكًا ثمَّ لم تغب الشَّمس حتَّى رأيتُنا ونحن أقلُّ النَّاس. وإنَّه حقٌّ على الله أن لا يملأ دارًا حَبْرة إلا ملأها عَبْرةً.
وسألها رجلٌ أن تحدِّثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباحٍ وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثمَّ أمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا.
وبكت أختها حُرَقة بنت النعمان يومًا وهي في عزِّها، فقيل لها: ما يبكيكِ؟ لعلَّ أحدًا آذاكِ. قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضَارةً في أهلي، وقلَّما امتلأت دارٌ سرورًا إلا امتلأت حزنًا.
قال إسحاق بن طلحة: دخلتُ عليها يومًا، فقلت لها: كيف رأيتِ عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خيرٌ ممَّا كنَّا فيه الأمس. إنَّا نجد في الكتب أنَّه ليس من أهل بيتٍ يعيشون في حَبْرة إلا سيُعْقَبون بعدها عَبْرةً، وأنَّ الدَّهر لم يظهر لقومٍ بيومٍ يحبُّونه، إلا بطَن لهم بيومٍ يكرهونه. ثمَّ قالت:
فبينا نسوسُ النَّاسَ والأمرُ أمرُنا … إذا نحن فيهم سُوقةٌ نتنصَّف
فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمُها … تقلَّبُ تاراتٍ بنا وتصرَّفُ
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الجزَع لا يردُّها، بل يضاعفها. وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ فوتَ ثواب الصَّبر والتَّسليم ــ وهو الصَّلاة والرَّحمة والهداية الَّتي ضمنها الله على الصَّبر والاسترجاع ــ أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الجزع يُشْمِتُ عدوَّه، ويسوء صديقَه، ويُغضِب ربَّه، ويسرُّ شيطانه، ويُحْبِط أجرَه، ويُضْعِف نفسَه. وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه وردَّه خاسئًا، وأرضى ربَّه، وسرَّ صديقه، وساء عدوَّه، وحمل عن إخوانه وعزَّاهم هو قبل أن يُعزُّوه. فهذا هو الثَّبات والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدود وشقُّ الجيوب، والدُّعاء بالويل والثُّبور، والسُّخط على المقدور.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقِبه الصَّبر والاحتساب من اللَّذَّة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه. ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يبنى له في الجنَّة على حمده لربِّه واسترجاعه. فلينظر: أيُّ المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنَّة الخلد؟
وفي الترمذي مرفوعًا: «يودُّ ناسٌ يوم القيامة أنَّ جلودهم كانت تُقْرَض بالمقاريض في الدُّنيا لما يرَون من ثواب أهل البلاء».
وقال بعض السَّلف: لولا مصائب الدُّنيا لوردنا القيامة مفاليسَ.
ومن علاجها: أن يروِّح قلبه برَوْحِ رجاء الخَلَف من اللَّه، فإنَّه من كلِّ شيءٍ عوضٌ إلا اللَّه، فما منه عوضٌ كما قيل:
من كلِّ شيءٍ إذا ضيَّعتَه عوضٌ … وما من الله إن ضيَّعته عوضُ
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ حظَّه من المصيبة ما تُحْدِثه له، فمن رضي فله الرِّضى، ومن سَخِط فله السُّخط. فحظُّك منها ما أحدَثَتْه لك، فاختَرْ خيرَ الحظوظ أو شرَّها. فإن أحدثَتْ له سخطًا وكفرًا كُتِبَ في ديوان الهالكين. وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجبٍ أو فعل محرَّمٍ كُتِبَ في ديوان المفرِّطين. وإن أحدثَتْ له شكايةً وعدم صبرٍ كُتِب في ديوان المغبونين. وإن أحدثَتْ له اعتراضًا على الله وقدحًا في حكمته، فقد قرَع بابَ الزَّندقة أو وَلَجه. وإن أحدثَتْ له صبرًا وثباتًا للَّه كُتِبَ في ديوان الصَّابرين. وإن أحدثت له الرِّضى عن اللَّه كُتِب في ديوان الرَّاضين. وإن أحدثَتْ له الحمد والشُّكر كُتِبَ في ديوان الشَّاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمَّادين. وإن أحدثَتْ له محبَّةً واشتياقًا إلى لقاء ربِّه كُتِبَ في ديوان المحبِّين المخلصين.
وفي «مسند الإمام أحمد» والتِّرمذيِّ من حديث محمود بن لبيدٍ يرفعه «إنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم. فمن رضي فله الرِّضى، ومن سَخِط فله السُّخط». زاد أحمد: «ومَن جَزِع فله الجزَع».
ومن علاجها: أن يعلم أنَّه وإن بلغ في الجزع غايتَه فآخرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمودٍ ولا مثابٍ.
قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أوَّل يومٍ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيَّامٍ. ومن لم يصبر صبرَ الكرام سلا سلوَّ البهائم.
وفي الصَّحيح مرفوعًا: «الصَّبر عند الصَّدمة الأولى».
وقال الأشعث بن قيسٍ: إنَّك إن صبرتَ إيمانًا واحتسابًا وإلَّا سلوتَ سلوَّ البهائم.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ أنفعَ الأدوية له موافقةُ ربِّه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأنَّ خاصِّيَّة المحبَّة وسرَّها موافقةُ المحبوب. فمن ادَّعى محبَّة محبوبٍ ثمَّ سخِط ما يحبُّه وأحبَّ ما يُسْخِطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتمقَّتَ إلى محبوبه.
قال أبو الدَّرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به.
وكان عمران بن حُصينٍ يقول في علَّته: أحبُّه إليَّ أحبُّه إليه. وكذلك قال أبو العالية.
وهذا دواءٌ وعلاجٌ لا يعمل إلا مع المحبِّين، ولا يمكن كلَّ أحدٍ أن يتعالج به.
ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللَّذَّتين والتمتُّعَين وأدوَنِهما: لذَّة تمتُّعه بما أصيب به، ولذَّة تمتُّعه بثواب الله له. فإن ظهر له الرُّجحانُ، فآثر الرَّاجحَ، فليحمد الله على توفيقه. وإن آثر المرجوحَ من كلِّ وجهٍ، فليعلم أنَّ مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظَمُ من مصيبته الَّتي أصيب بها في دنياه.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها: أحكم الحاكمين، وأرحم الرَّاحمين؛ وأنَّه سبحانه لم يرسل إليه البلاء لِيُهلكه به، ولا ليعذِّبه، ولا ليجتاحَه. وإنَّما افتقده به ليمتحن صبرَه ورضاه عنه وإيمانه، وليسمعَ تضرُّعه وابتهالَه، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعًا قصصَ الشَّكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنيَّ، إنَّ المصيبة ما جاءت لِتُهلكك، وإنَّما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك. يا بُنيَّ، القدرُ سَبُعٌ، والسَّبُع لا يأكل الميتة.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبد الذي يُسبَك به حاصله، فإمَّا أن يخرج ذهبًا أحمر، وإمَّا أن يخرج خَبَثًا كلُّه كما قيل:
سبكناه ونحسبه لُجَينًا … فأبدى الكِيرُ عن خَبَث الحديدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدُّنيا، فبين يديه الكِيرُ الأعظم. فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدُّنيا ومَسْبِكَها خيرٌ له من ذلك الكِيرُ والمَسْبِك، وأنَّه لا بدَّ من أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّه لولا محن الدُّنيا ومصائبها لأصاب العبدَ من أدواء الكِبْر والعُجْب والفَرعنة وقسوة القلب، ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا. فمن رحمة أرحم الرَّاحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواعٍ من أدوية المصائب تكون حِمْيةً له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحَّة عبوديَّته، واستفراغًا للموادِّ الفاسدة الرَّديَّة المهلكة منه. فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه كما قيل:
قد يُنعِم الله بالبلوى وإن عظمت … ويبتلي الله بعضَ القوم بالنِّعم
فلولا أنَّه سبحانه يداوي عبادَه بأدوية المحن والابتلاء لطغَوا وبغَوا وعتَوا. والله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به منه الأدواءَ المهلكةَ، حتَّى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه أهَّله لأشرف مراتب الدُّنيا وهي عبوديَّته، وأرفعِ ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه.
ومن علاجها: أن يعلم أنَّ مرارة الدُّنيا هي بعينها حلاوة الآخرة يقلبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا هي بعينها مرارة الآخرة، ولَأن ينتقل من مرارةٍ منقطعةٍ إلى حلاوةٍ دائمةٍ خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خفي عليك هذا، فانظر إلى قول الصَّادق المصدوق: «حُفَّت الجنَّةُ بالمكاره، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهوات».
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجال. فأكثرهم آثَرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدَّائمة الَّتي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعةٍ لحلاوة الأبد، ولا ذلَّ ساعةٍ لعزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعةٍ لعافية الأبد؛ فإنَّ الحاضرَ عنده شهادةٌ، والمنتظَر غيبٌ، والإيمانَ ضعيفٌ، وسلطانَ الشَّهوة حاكمٌ. فتولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة. وهذا حال النَّظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها. وأمَّا النَّظر الثَّاقب الذي يخرق حُجُبَ العاجلة، ويجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر.
فادعُ نفسَك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النَّعيم المقيم والسَّعادة الأبديَّة والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعذاب والحسرات الدَّائمة، ثمَّ اختر أيّ القسمين أليق بك. وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكلُّ أحدٍ يصبو إلى ما يناسبه وما هو الأولى به.
ولا تستطِلْ هذا العلاجَ، فشدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعليل دعت إلى بسطه. وباللَّه التَّوفيق.
زاد المعاد ط عطاءات العلم (4/ 270 - 281)