*عبدالله سعيد أبوحاوي القحطاني
"قصار الفوائد من كتاب البدائع والفوائد" للحافظ ابن القيم
"أكثر من ١٠٠ فائدة"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد
فإن المُطالع لما سطره الحافظ ابن القيم من كنوز في كتبه كلها بلا استثناء؛ لَيجد دررا ونفائس ومخبآت تسْبي النفس وتأخذ بجامع القلب فيرقص لها طربا وفرحا، وقد كان من أجلّها وأعظمها كتابيه المذكوريْن، واللذان لا يفصل بينهما سوى برزخ الغلافيْن، فالفكرة نفس الفكرة إلا أن البدائع أعظم وفي فوائده كثرة وندرة!!
عند مطالعة هذا وذاك؛ عزمت على نقل ما قُصر من الفوائد ليسلو وينهل من معينها من عجز عن مطالعة تلك الفرائد وتنوع الموائد والموارد ، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ولعله إن طالع ما هاهنا أن تسمو نفسه فيتطلع إلى ما هنالك، فلعمر الله لقد جف القلم عن وصف تلك الروائع والعجائب، ودُهشت من براعة هذا الكاتب، وليس القارئ المشاهد كالغائب !! فسارع إلى مطالعتها بل وإلى كل كتب هذا الإمام ولا تبرحها، فإني لك ناصح أمين ولك من المحبين.
وإن منهجي في ما نقلته وستراه هو نقل ما عنونه فقط بقوله(فصل، فائدة، فائدة جليلة ، قاعدة جليلة، ونحو ذلك ) شريطة ألا تتجاوز الفائدة في نظر الرائي نصف صفحة، وهي قصيرة جدا بالنسبة إلى بعض الفوائد المتصلة ببعضها والتي قد تتجاوز عشرات الصفحات، فإلى هذه المهمات ولا تستطل يا صاحبي هذه المقدمات؛ فكم من قارئ لم يقرأ سواها وفيها-وأقصد مقدمات الكتب- إشارات وأمارات وإنارات أصلح الله مني ومنك النيات ورفعنا درجات وحط عنا جميع السيئات.
ومنها:
أولا :《الفوائد》
١-من أعجبِ الأشياءِ: أن تعرِفَه ثم لا تحبَّهُ، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخَّر عن الإجابة، وأن تعرفَ قدرَ الربح في معاملتِهِ ثم تعامل غيرَهُ، وأن تعرف قدْر غضبهِ ثم تتعرَّض له، وأن تذوقَ ألمَ الوَحْشةِ في معصيتِهِ ثم لا تَطْلُبَ الأنسَ بَطاعتِهِ، وأن تذوقَ عُصْرةَ القلبِ عند الخوْض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصَّدْرِ بذِكْرِهِ ومناجاتِهِ، وأن تذوقَ العذابَ عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!! وأعجبُ من هذا علمُك أنَّك لا بدَّ لك منهُ وأنَّك أحوجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِضٌ وفيما يُبعِدُك عنه راغبٌ!! ص٦٢
٢-ما أخذ العبدُ ما حُرِّم عليه إلا من جهتين:
إحداهُما: سوءُ ظنِّهِ بربِّهِ، وأنَّه لو أطاعَهُ وآثَرَهُ لم يُعطِهِ خيرًا منه حلالًا.
والثانيةُ: أن يكون عالِمًا بذلك، وأنَّ مَنْ تركَ لله شيئًا أعاضَهُ خيرًا منه، ولكن تغلِبُ شهوتُهُ صبَرهُ وهواهُ عقلَهُ.
فالأولُ مِن ضَعْفِ علمِهِ، والثاني من ضَعْفِ عقلِهِ وبصيرتِهِ. ص٦٣
٣-قال يحيى بن معاذٍ: من جمع الله عليه قلبَهُ في الدُّعاءِ لم يَرُدَّهُ.
قلتُ: إذا اجتمع عليه قلبُهُ، وصَدَقتْ ضرورتُهُ وفاقتُهُ، وقَوِيَ رجاؤُهُ؛ فلا يكاد يُرَدُّ دعاؤُهُ. ص٦٣
٤-جمعَ النبيُّ ﷺ بين تقوى الله وحُسْنِ الخُلُقِ لأنَّ تقوى الله تُصلِحُ ما بين العبد وبين ربِّه، وحسنُ الخُلُقِ يُصْلِحُ ما بينه وبين خلقِهِ؛ فتقوى الله تُوجِبُ له محبةَ الله، وحُسْنُ الخُلُقِ يدعو الناس إلى محبَّتِهِ. ص٧٦
٥-جَمَعَ النبيُّ ﷺ بين المَأْثَم والمَغْرم؛ فإنَّ المأثَمَ يوجِبُ خسارةَ الآخرةِ، والمغرمَ يوجِبُ خسارةَ الدُّنيا. ص٨٢
٦-علامة صحة الإرادة: أن يكون همُّ المريد رِضَى ربه، واستعداده للقائه، وحزنه على وقت مرَّ في غير مرضاته، وأسفه على قربه والأنس به. وجماعُ ذلك أن يُصبح ويُمسي وليس له همٌّ غيره. ص١٧٠
٧-والهدى والرحمة وتوابعهما من الفضل والإنعام كله من صفة العطاء، والإضلال والعذاب وتوابعهما من صفة المنع، وهو سبحانه يُصرِّف خلقَه بين عطائه ومنعه، وذلك كله صادرٌ عن حكمةٍ بالغةٍ ومُلكٍ تامٍّ وحمدٍ تامٍّ؛ فلا إله إلا الله. ص١٩٦
٨-بين رعاية الحقوق مع الضرّ ورعايتها مع العافية بونٌ بعيدٌ. ص٢٤٨
٩- ليس العجب من صحيح فارغ واقفٍ مع الخدمة، إنما العجب من ضعيف سقيم تَعتَوِره الأشغال وتختلف عليه الأحوال وقلبه واقف في الخدمة غير متخلِّفٍ بما يقدر عليه. ص٢٣٨
١٠-أنفع الناس لك رجل مكَّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تَصنع إليه معروفًا؛ فإنه نِعمَ العونُ لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.
وأضر الناس عليك من مكَّن نفسَه منك حتى تعصي الله فيه؛ فإنه عونٌ لك على مضرتك ونقصك.ص٢٧٩
١١-للعبد بين يدي الله موقفان: موقفٌ بين يديه في الصلاة، وموقفٌ بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يُوفِّه حقَّه شُدِّد عليه ذلك الموقف.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيلًا طَويلًا (٢٦) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٢٧)﴾ [الإنسان: ٢٦ - ٢٧].ص٢٩١
١٢-قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)﴾ [الأنبياء: ٨٣]: جمع في هذا الدعاء بين: حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره.
ومتى وجدَ المبتلى هذا كُشِفتْ عنه بلواه،وقد جُرِّبَ أنه من قالها سبع مراتٍ -ولا سيما مع هذه المعرفة- كشفَ الله ضرَّه. ص٢٩٢
١٣-قوله تعالى عن يوسف نبيه: إنه قال: ﴿أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)﴾ [يوسف: ١٠١]: جمعتْ هذه الدعوةُ: الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجلّ غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء. ص٢٩٢ انتهت الفوائد القصيرة من كتاب الفوائد.
ثانيا : 《بدائع الفوائد 》
أ-《المجلد الأول》 :
١٤-إذا كان المؤذن يُقبل قوله وحده، مع أن لكل قوم فجرًا وزوالًا وعروبًا يخصهم؛ فأن يقبل قول الواحد في هلال رمضان أولى وأحرى. ص١١
١٥-قبول قول القَصَّاب في الذكاة ليس من هذا الباب بشيءٍ، بل هو من قاعدة أخرى، وهي أن الإنسان مؤتمن على ما بيده، وعلى ما يخبر به عنه.
فإذا قال الكافر: هذه ابنتي، جاز للمسلم أن يتزوجها، وكذا إذا قال: هذا مالي، جاز شراؤه وأكله. فإذا قال: هذا ذكَّيته جازَ أكله.
فكل أَحدٍ مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده، فلا يُشترط هنا عدالة ولا عدد. ص١٣
١٦-تقول: «نوَّنت الكلمة» ألحقتُ بها نونًا، و«سيَّنْتُها» ألحقت بها سينًا، و«كَوَّفتها» ألحقت بها كافًا، فإن ألحقت بها زايًا قلت: «زوَّيْتُها»؛ لأنَّ ألف الزاي منقلبة عن واو؛ لأن باب «طويت» أكثر من باب «حوة وقوة». وقال بعضهم: «زيَّيتها» وليس بشيء. ص٦٢
ب-《المجلد الثاني》 :
١٧-وتأمل السر في قوله تعالى: ﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)﴾، ولم يقل: في قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمعُ فِي الصدر ثم تَلجُ في القلب، فهو بمنزلة الدِّهْليز له، ومن القلب تخرجُ الأوامرُ والإرادات إلى الصدر ثم تتفرَّقُ على الجنود.
ومن فهم هذا فهم قولَه تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤] فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيتِه، فيُلْقي ما يريدُ إلقاءه في القلب، فهو موسوِسٌ في الصدر، ووسوسته واصلةٌ إلى القلب، ولهذا قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾ [طه: ١٢٠]، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى: أنه ألقى إليه ذلك وأوصلَهُ إليه، فدخل في قلبه. ص٨٠٢
ج-《المجلد الثالث》
١٨-إسماعيل بن سعيد عن أحمد: لا يجهرُ بالقراءة في صلاة الاستسقاء، ويصلِّي صلاةَ النَّاس، ليس فيها تكبيرٌ مثل تكبير العيدين.
وعنه محمد بن الحكم والكَوْسج والمرُّوْذِي : يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زيد، قال أبو حفص : يحتملُ أن هذا القولَ هو المتأخرُ لأنه قد قيل: إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديمٌ. ص٩٥٥
١٩-قال أحمد: لا تعجبُني صلاةُ الخوفِ ركعةً لما روى أبو عياش الزُّرَقِيُّ عن النبي ﷺ أنه صلى بعُسْفان ويوم بنى سُلَيْم، وكذا روى جابر وابن عباس وابن أبي حَثْمَة في ذات الرقاع، وكذلك أبو هريرة في عام نجد أنه صلى ركعتين، وكذا روت عائشة وابنُ عُمر وأبو موسى.ص٩٥٦
٢٠-نقل محمد بن الحكم عن أحمد في رجل صلَّى ركعتينِ من فرض، ثم أقيمتِ الصَّلاةُ.
قال: إن شاءَ دَخَلَ مع الإمام، فإذا صلَّى معه ركعتينِ سَلَّم، وأَعْجَبُ إليَ أن يقطعَ الصَّلاةَ ويدخلَ مع الإمام، قال القاضي: وظاهرُ هذا: الدخولُ من غير تحريمة، غير أنه اختار القطعَ والدخولَ بتحريمةٍ. ص٩٥٧
٢١-قال أحمد في رواية أبي طالب: إن انتظرَ الإمام المؤذِّنَ، فلا بأس قد فعل ذلك عمر، وإن لم ينتظرْه فلا بأس. ووجهه: قول بلال للنبي ﷺ: «لا تَسْبِقْني بآمِين»، فدلَّ على أنه لم يَنتظِرْه. ص٩٦١
٢٢-عبد الله والكوْسَجُ قالا: كان أبو عبد الله يضَعُ نعليه بين يديه، ولا يجعلُهما بين رجليه، يعني: في الصَّلاة، إمامًا كان أو غيرَ إمام. قال عبد الله: قال أبي: يُصَلِّي الفريضةَ والتَّطَوُّع ونعلُه بين يديه.
ونقل حنبل وأحمد بن علي: يجعلُهما عن يساره.
وجْهُ الأولى: أنه لا يؤذي بهما أحدًا، وقد أشار إلى ذلك فى الحديث. ووجهُ الثانية: أنه ﷺ صلَّى يوم الفتح بمكَّةَ فوضَعَ نعليه عن يَساره. ص٩٦٢
٢٣-قال المرُّوْذي: كان أبو عبد الله يقومُ خلفَ الإمام، فجاء يومًا، وقد تجافَى النَّاسُ أن يُصَليَ أحدٌ فى ذلك الموضع، فاعتزل وقامَ في طرف الصَّفِّ، وقال: قد نهى أن يتَّخِذَ الرجل مُصَلاه مثل مَرْبَض البعيرِ.ص٩٦٥
٢٤-قال جماعة من الناس: إذا ماتت نصرانيةٌ في بطنها جَنينٌ مُسلم، نَزَل ذلك القَبْرَ نعيمٌ وعذابٌ، فالنَّعيم للابن والعذاب للأم، ولا بُعْدَ فيما قاله، كما لو دُفِنَ في قبر واحدٍ مؤمنٌ وفاجرٌ، فإنه يجتمعُ في القبر النعيمُ والعذابُ.ص١٠٦٠
٢٥-قالت الإماميةُ: إن العتق لا يَنْفُذُ إلا إذا قُصِدَ به القُرْبة؛ لأنهم جعلوه عبادةً، والعبادةُ لا تصِحُّ إلا بالنية.
قال ابنُ عَقِيل: ولا بأس بهذا القول لاسيَّما وهم يقولون: الطلاق لا يقعُ إلا إذا كان مصادفًا للسُّنَّة، مطابقًا للأمر، وليس بقُرْبة، فكيف بالعتق الذي هو قُرْبَةٌ؟
قلت: وقد ذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس أنه قال: «الطلاقُ ما كان عن وَطَرٍ، والعِتْقُ ما ابتُغِيَ به وجهُ الله تعالى». ص١٠٦٠
٢٦-سئل ابن عَقِيل عن: رجل له ماء يجري على سطح جاره، فَعَلا دارَه هل يسقط حق الجري؟
فقال: لا، لكنه إذا سلط الماء على عادته، حفر سطح جاره لموضع العُلُوِّ، فينبغي أن يجعل جريَهُ بحدته إلى ملكه، ثم يخرجُه بسهولة إلى سطح جاره. ص١٠٦٣
٢٧-وسُئل -يقصد ابن عقيل-عن رجل وقفَ دابَّةً في مكان، فجاء رجلٌ فضربها، فرفسته، فمات، هل يضمن صاحبُ الدَّابَّة؟
فقال: إذا لم يكن مُتَعَدِّيًا في إيقافِها بأن تكونَ في مُلك الضَّارب فلا ضَمانَ عليه، وإن كان مُتَعدِّيًا فالضَّمانُ عليه. ص١٠٦٤
٢٨-حكى الطَّحَاويُّ: أنَ مذهبَ أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراءِ الزَّكاةَ من بني هاشم الأغنياء، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وسألت قاضيَ القضاة عن ذلك، -يريد الدَّامَغاني - فقال: نعم، هو مذهب أبي يوسف وهو مذهبُ الإمامِيَّة.
قلت: وقد ذهب بعضُ الفقهاء إلى أنهم يَجوْزُ لهم الأخذَ من الزَّكاة مطلقًا إذا مُنِعُوا حَقَّهُم من الخُمْس، وأفتى به بعضُ الشافعية. ص١٠٦٥
٢٩-من دقيق الوَرعَ أن لا يُقْبَلَ المبذولُ حال هَيَجَان الطبع من حزن أو سرور، فذلك كبذل السَّكران، ومعلومٌ أن الرأي لا يتحقَّقُ إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذلٌ في تلك الحال يعقبُهُ نَدَمٌ، ومن هنا: «لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»، وإذا أردت اختبارَ ذلك فاختبرْ نفسَكَ في كل مواردِكَ من الخير والشر، فالبِدَارُ بالانتقام حالَ الغضبِ يُعْقِبُ ندمًا، وطالما ندم المسرورُ على مجَازفته في العطاءِ، وودَّ أن لو كان اقتصر، وقد نَدِمَ الحسنُ على تمثيله بابن مُلْجِم. ص١٠٦٥
٣٠-في قول النبي ﷺ للسائل عن مواقيت الصلاة: «صَلِّ مَعَنا»، جوازُ البيان بالفعل، وجوازُ تأخيرِه إلى وقتِ الحاجةِ إليه. وجوازُ العُدول عن العمل الفاضلِ إلى المفضولِ لبيانِ الجَوازِ. ص١٠٦٦
٣١-إذا قال إنسان لآخر: «أَنْفِذْ لي كتابًا»، فحلف أنه قد أنفذَهُ أمسِ، فبان أنه قد أنفذَه قبلَه بيوم.
قال ابن عقيل: لا يحنَثُ، لا لأجل الخطأ والنسيان؛ بل لأنَّ قصدَهُ تصديقُ نفسِه في الإنفاذ الذي هو مقصودُ الطالب، وإذا بان أن المقصودَ قد حصل قبل أمس، فقد بان أنه قد حصل أوْفَى المقصود، كما لو حلف: «لقد أعطيتُك دينارًا»، فبان أنه أعطاه دينارين. ص١٠٨١
٣٢-إذا ماتت الحاملُ، فصُلِّيَ عليها هل يُنْوَى الحَمْلُ؟.
قال ابنُ عقيل: يحتملُ أن لا يذكرَ سوى المرأة؛ لأن الحَمْلَ غيرُ مُتَيَقَّنٍ، ولهذا يلاعنُ عليه، ولو قُتِلَتْ لم تَجِبْ دِيَتُهُ.
فإن قيل: أليس يُعْزَلُ له الإرثُ، ولا تُدْفَنُ في مقابر المشركين إذا كانت نصرانيةً، ويَتَذَكَّى بذكاة أمِّه؟
قيل: أما الإرثُ فهو الحُجَّة لأنه لا يُعطاه، ولا يُورَثُ عنه، حتى يتحقَّقَ وضْعُه ُعنه، وأما دفنُهُ: فلظنِّ وجوده، وحكمُ الذكاة تلحقهُ إذا وُضِعَ. ص١٠٨٢
٣٣-سَرَق منديلًا لا يساوي نِصابًا، وفي طرفه دينار لم يعلمْ به.
قال ابن عقيل: قياس قولِ أحمدَ فيمن سرق إناءً من ذهبٍ فيه خمرٌ، قال: إنه لا يُقْطَعُ، فكذلك هاهنا لا يُقْطَعُ؛ لأنه جعل القَصْدَ للخمر عِلَّةً لإسقاط القطع بالإناء، فقال: لو لم يكن قصدَه الخمرُ أراقه. ص١٠٨٣
٣٤-قال ابن عَقِيل: سُئلتُ عن كَتْب المَهْر في ديباج؟
فقلت: إنما يقصدُ المباهاة، وهي التي حُرِّم لأجلها الحريرُ، وهو الكِبْرُ والخُيَلاءُ، قالوا: فهل يطعنُ ذلك في الحُجَّة؟ قلت: لا، كما لو كتب في ورقة مغصوبة، الكَتْبُ حَرَامٌ، والحُجَّةُ ثابتةٌ. ص١٠٨٥
٣٥-طُلِبَ في الزنا أربعة، وفي الإحصانِ اكتُفي باثنين؛ لأن الزنا سببٌ وعلَّةٌ، والإحصان شرطٌ، وإبداء الشروط تقصرُ عن العلل والأسباب؛ لأنها مصححةٌ وليست موجبة، ولهذا لا يُكتفى بالإقرار مرَّةً، عندنا وعند الحنفية. ص١٠٨٦
٣٦-قال ابن عقيل: يحرم خَلْوةُ النساء بالخِصْيان والمَجْبُوبينَ؛ إذ غايةُ ما تجد فيهم عدمُ العضو أو ضعفه، ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع بحسِّهم من القبلة واللمس والاعتناق. والخصِيُّ يقرعُ قرعَ الفحل، والمجبوبُ يُسَاحِقُ، ومعلومٌ أن النساء لو عَرَض فيهنَّ حبُّ السِّحَاق منَعْنا خَلْوَةَ بعضِهنَّ ببعض، فأولى أن نمنع خَلْوةَ من هو في الأصل على شهوته للنساء.ص١٠٩٥
٣٧-قوله في حديث الجمعة: «وطُوِيتِ الصُّحُف» ، أي: صحفُ الفَضلِ، فأما صحفُ الفرض فإنها لا تُطوى لأن الفرض يسقطُ بعد ذلك.ص١٠٩٦
٣٨-عن أحمدَ في الصَّيد إذا أوْجَبه، والشَّاة إذا ذبحها، ثم سقطت في ماء هل تباحُ؟ على روايتين.
وسئِلَ بعض أصحابنا عن هؤلاء الشَّوَّائين يذبحون الدجاج ويرمون به في ماء السَّمْط وهو يضطربُ؛ فخرَّجه على هاتين الروايتين، وصحح الإباحة قال: لأن ذلك: الاضطرابَ ليس له حُكْمُ الحياةِ. ص١٠٩٦
٣٩-رجل له على ذميٍّ دَيْن، فباع الذِّمِّيُّ خمرًا وقضاه من ثمنه، فأبى أن يأخذَه.
قال الإمام أحمد: ليس له إلا أن يأخذَه أو يبرئه، واستدلَّ بقول عُصَرَ في أخذ العُشْرِ منهم من ثمنِهِ: «ولُوهُمْ بَيْعها وخُذوا العُشْرَ مِنْ أثمانِها» ص١١١٧
٤٠-قال ابنُ عقيل: شاهدتُ شيخَنا ومعلِّمَنا المناظرةَ: أبا إسحاق الفيروزابادي لا يُخرج شيئًا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلَّمُ في مسألة إلا قَدَّمَ الاستعانةَ بالله وإخلاصَ القصدِ في نُصْرَةِ الحقِّ دونَ التَّزين والتَّحسين للخَلْق، ولا صنَّفَ مسألةً إلاّ بعد أن صلَّى رَكَعَاتٍ، فلا جَرَمَ شاع اسمُه، واشتهرت تصانيفُه شرقًا وغربًا، هذه بركاتُ الإخلاصِ. ص١١٢٢
٤١-عُوتب ابنُ عقِيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يَدَه أكان خطأ أو واقعًا موقِعَه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يَرُبُّ ولدَه مربَّةً خاصَّةً، والسلطان يَرُبُّ العالم مربَّة عامَّةَ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ من لابَسَها، وكيف يُطْلَب من المُبتلَى بحالٍ ما يُطْلَب من الخالي عنها. ص١١٢٣
٤٢-«الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمِنِ» فيه تفسيرانِ صحيحانِ:
أحدهما: أن المؤمنَ قَيَّدَهُ إيمانُهُ عن المحظورات، والكافر مطلقُ التَّصَرُّف.
الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمنُ لو كان أنعمَ النَّاس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسِّجن، والكافرُ عكْسُه، فإنه لو كان أشدَّ النَّاس بؤسًا فذلك بالنسبة إلى النار جَنَّتُه . ص١١٢٥
٤٣-سأل تلميذٌ أستاذَهُ أن يمدحَهُ في رقعة إلى رجل، ويبالغَ في مدحه بما هو فوقَ رُتبته، فقال: لو فعلتُ ذلك لكنتُ عند المكتوبِ إليه إما مقصِّرًا في الفهم؛ حيث أعطيتُكَ فوق حَقِّكَ، أو متَّهمًا في الإخبار فأكون كذابًا، وكلا الأمرينِ يضرُّك؛ لأني شاهِدُك، وإذا قُدِح في الشاهد بطل حَقُّ المشهود له. ص١١٢٥
٤٤-قال أحمد: إذا تزوَّج العبدُ حرَّة عَتَقَ نصفه، ومعنى هذا: أن أولاده يكونون أحرارًا، وهم فَرْعُهُ، فالأصل عبد، وفرعُهُ حرٌّ، والفرعُ جزء منم الأصل. ص١١٢٨
٤٥-ذكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن عباس: أنه سئل عن ميت مات ولم يوجد له كفن قال: «يُكَبُّ على وجهه ولا يُسْتَقْبَلُ بفرجه القبلة».
قلت: هذا بعيدُ الصِّحَّة عن ابن عباس، بل هو باطلٌ، والصواب أنه يُسترُ بحاجز من تراب، ويوضعُ في لحده على جنبه مستقبلَ القبلة، كما ينامُ العُرْيان الذي نُشر عليه ملاءة أو غيرها، وإذا كان عليه حاجزٌ من تُراب وهو مستقبلُ القبلةِ كان بمنزلة من عليه ثيابه. ص١١٤٩
٤٦-قال بعضهم: قولُ العامَّةِ: «نُسَيَّاتٌ» ليس بلحن؛ لأن الجوهريَّ حكاه،وكأنه جَمْعُ نُسَيَّهِ بتصغير نِسْوَةٍ.
قلت: وعلى هذا فلا يقالُ إلا على جماعات متعدِّدَةٍ منهنَّ؛ لأنه جمعُ الجمع، والعامَّةُ تطلقه على الجماعة الواحدة منهنَّ. ص١١٥٦
٤٧-قول النبي ﷺ: «مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فكأنَّما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ». سرُّ هذا التشبيه -والله ُكل أعلم-: أن اللاعبَ بها لما كان مقصودُه بلعبه أكلَ المال بالباطل الذي هو حرامٌ كحرمة لحم الخنزير، وتوصَّل إليه بالقمار، وظنَّ أنه يُفيدُه حِلَّ المال، كان كالمتوصِّل إلى أكل لحم الخنزير بذكاته، والنبيُّ ﷺ شَبَّهَ اللَاّعب بها بغامس يده في لحم الخنزير ودمه، إذ هو مقدِّمَةُ الأكلِ، كما أن اللعب بها مقدمةُ أكل المال، فإن أكَلَ بها المال كان كأَكْل لحم الخنزير. والتشبيه إنما وقع في مقدِّمة هذا بمقدمة هذا، واللهُ أعلم.ص١١٥٧
٤٨-كانت كرامة رسول الله ﷺ بالإسراء مفاجأةً من غيرِ ميعاد؛ ليُحْمَلَ عنه ألمُ الانتظار، ويفاجأ بالكرامة بغتةً. وكرامة موسى بعدَ انتظارِ أربعينَ ليلةً. ص١١٦٣
٤٩-لما سافر موسى إلى الخضر وجَدَ في طريقه مسَّ الجُوع والنَّصَبِ، فقال لفتاه: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ [الكهف: ٦٢] فإنه سفرٌ إلى مخلوق.ولما واعَدَهُ ربُّه ثلاثينَ ليلةً وأتَّمها بعشر، فلم يأكلْ فيها، لم يجدْ مسَّ الجُوع ولا النَّصَب فإنه كان سَفَرٌ إلى ربه تعالى، وهكذا سفرُ القلب وسيرُه إلى ربِّه لا يَجِدُ فيه من الشَّقاء والنَّصَب ما يجِدُه في سفره إلى بعض المخلوقين. ص١١٦٤
٥٠-تسخيرُ البراق لحَمْل رسول الله ﷺ في ليلةٍ واحدة مسيرةَ شهرينِ ذهابًا وإيابًا أعظمُ من تسخير الريحِ لسليمان مسيرةَ شهرين في يوم ذهابًا وإيابًا، فإن الريحَ سريعةُ الحركة، طبعُها الإسراع بما تحملُهُ، وأما البراق فالآية فيه أعظمُ. ص١١٦٤
٥١-قولُ الملائكة للنبي ﷺ ليلة الإسراء: «مَرْحَبًا بِهِ» أصلٌ في استعمال هذه الألفاظ وما ناسَبَها عند اللِّقاء نحو: أَهلًا وسهلًا، ومرحبًا وكرامَةً، وخيْرَ مَقْدَمٍ وأيْمَنَ مَوْرِدٍ ونحوها.
ووقع الاقتصارُ منها على لفظ: «مَرْحَبًا» وحدها؛ لاقتضاءِ الحال لها، فإن الرَّحْبَ هو السَّعَةُ، وكان قد أفضى إلى أوسع الأماكن، ولم يطلقْ فيها «سهلًا»؛ لأن معناه: وطِئْتَ مكانًا سهلًا، والنَّبِيُّ ﷺ كان محمولًا إلى السماء.ص١١٦٥
٥٢-قول النبي ﷺ: «لا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ ولا شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ» لأنَّ اللعنَ إساءةٌ، بل من أبلغ الإساءة، والشفاعةُ إحسانٌ، فالمُسيءُ في هذه الدَّار باللعن يسلبه اللهُ الإحسانَ في الأخرى بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصُدُ ما يزرعُ، والإساءةُ مانعةٌ من الشَّفاعة التي هي إحسان.
وأما منعُ اللعن من الشهادة فإنَّ اللَّعنَ عداوةٌ، وهي منافيةٌ للشَّهادة، ولهذا كان النبي ﷺ سيِّدَ الشفعاء وشفيعَ الخلائق؛ لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم ﷺ. ص١١٦٨
٥٣-في شراءِ أَرْض مسجدِ المدينة من اليتيمين وجَعْلها مسجدًا من الفقه: دليلٌ على جواز بيع عقار اليَتيم، وإن لم يكنْ محتاجًا إلى بيعه للنَّفقة، إذا كان في البيع مصلحةٌ للمُسلمينَ عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه. ويؤْخَذُ من ذلك أيضًا بيعُه إذا عُوِّضَ عنه بما هو خير له منه.
وفي نَبْش قبور المشركين من الأرض وجعلها مسجدًا دليلٌ على طهارة المقبرة، وأن الصَّلاةَ فيها لم يُنْهَ عنها لنجاستها، وإنما هو صيانةً للتَّوحيد، وسدًّا لذريعة الشِّرْك بالقبور، الذي هو أصل عبادة الأصنام، كما قال ابن عباس وغيره. ص١١٦٩
٥٤-في استئجار النَّبِيِّ ﷺ عبدَ الله بن أُرَيْقِط الدِّيلي هاديًا في وقت الهجرة، وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطِّبِّ والكُحْل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكنْ ولايةً تتضمَّنُ عدالةً، ولا يلزمُ من مجرَّد كونِه كافرًا أن لا يوثَقَ به في شيء أصلًا، فإنه لا شيءَ أخطرُ من الدلالة في الطريق،ولاسِيَّما في مثل طريق الهجرة. ص١١٧٠
٥٥-قيل: إنما فَدَّى: النبي ﷺ سعدًا بأبويه لما ماتا عليه، وأما الأَبوان المسلمان فلا يجوز أن يُفَدَّى بهما، وهذا لا يحتاجُ إليه، فإنَّ التفديةَ نُقِلت بالعُرْف العام عن وضعها الأول، وصارت علامةً على الرضى والمحبة، وكأنه قال: افْعَلْ كدْا مغبوطًا مرضيًّا عنك. ص١١٧٤
٥٦-بلالُ بنُ حَمَامة وأَبوه رَباح، ابنُ أم مكتوم وأَبوه عَمْرو، بشير بنُ الخَصاصية وأَبوه مَعْبَدٌ، الحارث بنُ البَرْصاء وأَبوه مالك، خفَافُ بنُ نُدْبَة وأَبوه عُمَيْرٌ، شرَحْبِيل بنُ حَسَنَةَ وأَبوه مالك، مالك بنُ نُمَيْلة وأَبوه ثابت، مُعَاذٌ وَمعَوِّذٌ ابْنَا عفراء وأَبوهما الحارث، يعلَى بنُ مُنْيَة وأَبوه أميَّة، عبدِ اللهْ بنُ بُحَيْنَةَ وأَبوه مالك.ص١١٩٣
٥٧-إسماعيل بنُ عُلَيَّة وأَبوه إبراهيم، منصور بنُ صَفِيَّة وأبوه عبدِ الرحمن، محمد بنُ عائشة وأَبوه حفص، إبراهيم بنُ هَرَاسة وأَبوه سلمة، محمد ابن عَثْمَة وأَبوه خالد. ص١١٩٤
٥٨-حملُ المطلق على المقيَّد مشروط بأن لا يقيدَ بقيدَيْنِ متنافيين، فإن قيِّدَ بقيدينِ متنافيينِ أمتنع الحمل وبقي على إطلاقه، وعلم أن القيدينِ تمثيل لا تقييدٌ، مثاله قوله ﷺ في ولوغ الكلب: «فَلْيَغْسِلْهُ سَبعَ مَرَّات إحْدَاهن بالتراب» مطلق، وفي لفظ: «أولاهنّ» وهذا مقيد بالأول. َ وفي لفظ «أخْرَاهُن» وهذا مقيد بالآخرة، فلا يحمل على أحدهما، بل يبقى على إطلاقه. ص١٢٤٣
د-《المجلد الرابع》
٥٩-النكرةُ في سياق النَّفي تعمُّ، مستفادٌ من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾ [الكهف: ٤٩]، ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧]، وفي الاستفهام من قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥]، وفي الشرط من قوله: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ [مريم: ٢٦]، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ [التوبة: ٦]، وفي النهي من قوله: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾ [هود: ٨]، وفي سياق الإثبات بعموم العلَّة والمُقتضي، كقوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: ١٤]، وإذا أضيف إليها (كلٌّ) نحو: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ [ق: ٢١]، ومن عمومها بعموم المقتضي: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)﴾ [الشمس: ٧]. ص١٣٠٥
٦٠-قوله تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾ [الأعراف: ٣١] جمعت أصولَ أحكام الشريعة كلَّها، فجمعتِ الأمرَ والنهيَ والإباحةَ والخبر. ص١٣١٢
٦١-تقديمُ العتاب على الفعل من الله تعالى لا يدُلُّ على تحريمه، وقد عاتب اللهُ تعالى نَبِيَّهُ في خمسة مواضعَ من كتابه في: (الأنفال وبراءة والأحزاب وسوَرة التحريم وسورة عبس) خلافًا لأبي محمد ابن عبد السلام حيث جعل العتبَ من أدلة النهي. ص١٣١٢
٦٢-لا يصحُّ الامتنانُ بممنوع منه خلافًا لمن زعم أنه يَصِحُّ، ويُصْرف الامتنانُ إلى خلقِه للصبر عنه. ص١٣١٢
٦٣-قوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧)﴾ [النساء: ٧٧] جمعت بين التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والحضِّ على فعل الخير، والزَّجر عن فعل الشَّرِّ، إذ قوله: ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧)﴾ يتضمَّنُ حَثَّهْمْ على كسب الخير وزجرهم عن كسب الشر. ص١٣١٢
٦٤-ضَرْبُ الأمثالِ في القرآن يُستفادُ منه أمورُ التَّذكير والوعظ، والحَثِّ والزَّجر، والاعتبار والتَّقرير، وتقريب المُراد للعقل، وتصويره في: صورة المحسوس، بحيث يكون نسبتُه للعقل كنسبته المحسوس إلى الحس.
وقد تأتي أمثالُ القرآن مشتملةً على بيان تفاوُت الأجر، وعلى المدح والذَّمِّ، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر. ص١٣١٤
٦٥-السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾ [الدخان: ٤٩]، كيف تجدُ سياقَه يدُلُّ على أنه الذليلُ الحقيرُ. ص١٣١٤
٦٦-ما عُلق جوار البَدَل فيه على فقد المُبْدل، فإذا فُقِدا معًا فهل يجبُ عليه تحصيل المُبدل أو يتخير بينه وبين البَدَل؟.
فيه خلافٌ، وعليه إذا وجبت عليه بنتُ مخاضٍ فعَدِمها فابنُ لَبُون.
فإن عدمه فقولان:
أحدهما: يتخيَّر بينهما في الشِّراء، والثاني: أنه يتعيَّنُ شراء الأصل.
ومنها: أنه لو ملك مئتين من الإبل، وقلنا: يخرجُ أربعَ حِقاقٍ تعيينًا فعدمها، فهل يجوز أن يشتريَ خمس بنات لَبون؛ فيه خلافٌ.ص١٣٢٩
٦٧-ثلاثةٌ من الصحابة جمعوا بين كونهم أنصارًا مهاجرين، ذكرهم ابن إسحاق في «سيرته»:
أحدهم: ذَكوان بنُ عبد قيس من بني الخَزْرج، قال ابن إسحاق: كان خرج إلى رسول الله ﷺ وكان معه بمكة ثم هاجر منها إلى المدينة، وكان يقال له: مهاجري أنصاري شهد بدرًا، وقتل بأُحُد شهيدًا.
والعباس بن عبَادةَ بن نَضْلَةَ من بني الخَزْرج أيضًا، قال ابن إسحاق: كان فيمن خَرَج إلى رسول الله ﷺ وهو بمكة فأقام معه بها، قُتل يوم أُحُد شهيدًا.
وعُقْبة بن وهب خرج إلى رسول الله ﷺ مهاجرًا من المدينة إلى مكة وكان يقالُ له: مهاجري أنصاري حليف لبني الخَزْرج. ص١٣٢٩
٦٨-قال الشَّيخُ تاجُ الدين: سُئل الشَّيخ عز الدين بن عبد السَّلام عن معنى قول الفقهاء للمطلِّق الطَّلاقَ الرَّجعِيَّ: قلْ: «راجعتُ زوجتي إلى نكاحي» ما معناه؟ وهي لم تخرجْ من النِّكاح، فإنَّها زوجة في جميع الأحكام؟.
فقلت له: معناه أنَّها رجعتْ إلى النِّكاح الكامل الذي لم تكنْ فيه صائرةً إلى بينونة بانقضاء زمان، وبالطَّلاق صارت جارية إلى بينونة بانقضاء العِدَّة، فقال: أحسنت. ص١٣٣٣
٦٩-القاضي والمفتي مشتركان في أنَّ كلًاّ منهما يجبُ عليه إظهارُ حكم الشَّرع فْي الواقعة، ويتميَّزُ الحاكم بالإلزام به وإمضائه، فشروط الحاكم ترجِع إلى شروط الشَّاهد والمفتي والوالي، فهو مخبر عن حكم الشَّارع بعلمه، مقبولٌ بعدالته، منفذٌ بقدرته.ص١٣٣٤
٧٠-الشافعيُّ يُبالغُ في ردِّ الاستحسان، وقد قال به في مسائل :
الأولى: أنَّه استحسن في المتعة في حق الغَنيِّ أن يكون خادمًا، وفي حقِّ الفقير مقنعة، وفي المتوسط ثلاثين درهمًا.
الثانية: أنَّه استحسنَ التَّحليفَ بالمصحف.
الثالثة: أنَّه استحسن في خيار الشُّفعة أن تكون ثلاثةَ أيَّام.
الرابعة: أنَّه نصَّ في أحد أقواله إنَّه يبدأ في النِّضال بمخرج السبق اتباعًا لعادة الرُّماة: قال أصحابه: وهو استحسان. ص١٣٤٧
٧١-قال القاضي : نص أحمد على أن الإسراء كان يَقَظَة، وحكي له أن موسى بن عقبة قال: أحاديث الإسراء مَنَامٌ، فقال: هذا كلامُ الجَهْميَّة.
ونقل حنبلٌ أن الرؤيةَ منامٌ، ونقل الأثرم وغيره: أنَّه رآه ولا يُطْلَقُ شيء سوى ذلك.
وقال أبو بكر النَّجَّاد : رآه إحدى عشرةَ مرَّة، منها بالسُّنة تسع مرات ليلة المعراجِ حينَ كان يتردَّدُ بينَ موسى وبينَ ربِّه، ومرتينِ بالكتاب.ص١٣٧٩
٧٢-سئل ابن عقيل: هل يجوزُ أن يَتَّخِذ النساءُ السُّفَرَ والمطارحَ والمخادَّ، وغير ذلك حريرًا؟
فقال: لا، بل ملابسَ فقط. ص١٣٨٣
٧٣-في «الفنون»: سئل حنبلي عن رجل سمع مؤذِّنًا يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال: كذبتَ، هل يكفُرُ؟
فقال: لا يكفرُ لجواز أن يكونَ قصدُه تكذيبَ القائل فيما قال لا أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهدُ هذه الشهادةَ، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)﴾ [المنافقون: ١].ص١٣٨٤
٧٤-قال الخَلاّلُ: حدثنا العباسُ بن أحمدَ اليماميُّ بطَرَسُوسَ، سأل أبا عبدِ الله رجلٌ عن الحديث الذي يروى عن النبي ﷺ: «لا يَكْفُرُ أحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِذَنْب»، فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث النبي ﷺ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فقدْ كفَرَ» ؟! فقال له: يورث بالمِلَّة؟ فقال: لا يُورَثُ ولا يَرِثُ. ص١٣٨٤
٧٥-سئل رجلٌ: عن رجلٍ تزوَّج أُمَّ رجلٍ وأختيه فقال:
صورةُ المسألة: رجلانِ وطِئا أَمَةً في طُهْرِ واحدٍ، فأتتْ بولد فَتَداعياه، فأُري القافَةَ فألحقوهُ بهما على مذهب من يرى ذلك، وكان للرجلين بنتان، فجاء رجلٌ أجنبيٌّ فتزوَّجَ بالأَمَة بعد عِتْقِها وتزوَّجَ بنتي الواطِئَيْن؛ لأنه ليس إحداهما أختًا للأخرى، وإن كانتا أختين للولد المُلحق بالواطِئَيْنِ، فقد جمع هذا الرجل الأجنبيُّ بين أم ذلك الولد وأختيه من الواطئين، فأمه ليست أمهما. ص١٣٨٥
٧٦-استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد بتخصيص آية الميراث بقوله: «لا ثورث ما تركناه صدقة» والصدِّيق أول من خصَّصَه.
قال ابن عقيل: وهذه بلاهة من هذا المستدل، فإن الصدِّيق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاهًا من النبي ﷺ، فهو قطعي وليس النزاع فيه. ص١٣٨٦
٧٧-قال ابنُ عقيل في مناظرته لبعض المعتزلة: أنتم اعتمدتم في نفي التثنية على دليل التمانع، وهو بعينه ينقلب عليكم في خلق الأفعال؛ لأنَّا إذا قدرنا أنه -تعالى- أراد تحريك جسم، وأراد العبدُ تسكينه فلا يخلو ... إلى آخره، وفِعْلُ الله لا يدخل تحت مقدور العبد، وفعل العبد لا يدخل تحت مقدور الله عندكم، فلا انفكاك لكم ألبتة عن هذا السؤال، فأين توحيدكم ؟!. ص١٣٨٦
٧٨-ومن مسائل أبي العباس أحمد بن محمَّد البِرْتي:
قلت: إذا الْتَعَنَ الزوجانِ، ما أمرهما فسخ أو طلاق بتفريق الحاكمِ؟ وكيف يكونُ حالُ المرأة إذا ارتدَّت عن الإِسلام والخُلْع وما أشبه هذا؟
فقال: هذه مسألةٌ أنا فيها منذُ ثلاثينَ سنةً، لم يَتَّضِح الأمرُ فيها، فلا أدري اللِّعَانُ فيها أو لا ؟ ص١٤٠٤
٧٩-ومن مسائل الفضل بن زياد:
قال: سمعتُ أبا عبد الله قيل له: ما تقولُ في التَّزويج في هذا الزَّمان؟
فقال: مثلُ هذا الزمان ينبغي للرَّجل أن يَتَزَوَّجَ، ليت أن الرجلَ إذا تزَوَّجَ اليومَ ثنتين يُفْلِت، ما يأمنُ أحدكم أن ينظرَ النَّظْرة فَيحْبَط عملُهُ. قلت له: كيف يصنُعُ؟ من أين يطعمُهم؟ فقالت: أرزاقُهم عليك؟! أرزاقُهم على الله عز وجل . ص١٤٠٦
٨٠-ومن مسائل أحمد بن محمد بن خالد البُراثي :
قال: سألتُ أبا عبد الله، فقلت: إذا فاتَتْني أَوَّلُ صلاةِ الإمامِ فأدركت معه من آخِرِ صلاتِهِ، فما أعتدُّ به أول صلاتي؟ فقال لي: تقرأُ فيما مضى يعني: الحمد وسورة، وفي القعود تقعدُ على ابتداء صلاتِك. ص١٤٤٦
-٨١-فإن كان شبَق الصائم مستدامًا جميعَ الزمان سقطَ القضاءُ وعَدَلَ إلى الفدية كالشيخ والشيخة، وإن كان يعتريه في زمن الصيف أو الشتاء قَضى في الزمن الآخر ولا فديةَ هنا؛ لأنه عذرٌ غير مستدام فهو كالمريض، ذكر ذلك في «الفصول».ص١٤٧٤
٨٢-قال أحمدُ في الرجل يعملُ الخيرَ، ويجعل النِّصْف لأبيه أو لأمِّه:أرجو.
وقال: الميِّتُ يصِلُ إليه كل شيء من الخير، لما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «إنَّ مِنَ البِرّ بَعْدَ البِرِّ أن تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلاتِكَ، وأنْ تَصُومَ لهما مَعَ صَومكَ، وأنْ تَتَصَدّقَ لَهُما مَعَ صَدَقَتِك». انتهى.
ولا يشترطُ تسمية المهْدَى إليه باسمه، بل يكفي النِّيَّةُ، نصَّ عليه في رواية أبيه عبد الله: لا بأسَ أن يَحجَّ عن الرجل ولا يُسَميِه. ص١٤٧٧
٨٣-قال إسحاقُ الكوسج: قلت لأحمد: قال الحسنُ في الرجل يقول لامرأته: «أنت طالقٌ إن شاء الله» كان يلزمُه؟ فقال أحمد: أما أنا فلا أقول فيه شيئًا. قلت: لم؟ قال الطلاق ليس هو يمين. قلت: وكذلك العِتقُ؟ قال: نعم.ص١٤٧٨
٨٤-لا يكون الجحدُ إلَّا بعد الاعترافِ بالقلبِ أو اللِّسانِ، ومنه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤] ومنه: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)﴾ [الأنعام: ٣٣] عقيب قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾، ومنه: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩)﴾ [العنكبوت: ٤٩] ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧)﴾ [العنكبوت: ٤٧] وعلى هذا لا يحسنُ استعمالُ الفقهاءِ لفظَ الجحودِ في مطلقِ الإنكارِ، في باب الدَّعاوى وغيرها؛ لأن المُنْكِرَ قد يكون مُحِقًّا فلا يُسَمَّى جاحدًا. ص١٥١٧
٨٥-قال إسحاقُ بن هانئ: تعشَّيْتُ مرَّةً أنا وأبو عبد الله وقرابةٌ لنا ، فجعلنا نتكلَّمُ وهو يأكلُ، وجعل يمسحُ عند كلِّ لقمةٍ يدَه بالمنديلِ، وجعل يقولُ عند كل لقمة: الحمدُ لله وبسمِ الله، ثم قال لي: أكلٌ وحَمْدٌ خيرٌ من أكلٍ وصمتٍ.ص١٥١٧
٨٦-يقال مجنونٌ ومغبونٌ ومهروعٌ مخفوعٌ ومعتوهٌ وممتوهٌ ومُمتَّهٌ وممسوسٌ، وبه لمم، ومصابٌ في عقله، فهذه عشرة ألفاظٍ. وأما مخروعٌ فصحَّفها العامَّة من مهروع.ص١٦٢٦
٨٧-"رضي" لامُه واوٌ؛ لأنه من الرِّضوان، وانقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، وقالوا في الماضي المسند إلى اثنين: «رضيا» بالياء، وجاءوا إلى [المضارع]فقالوا: «يرضيان» بالياء، والقياس: يرضوان، إذ لا موجب لقلب الواو ياءً، ولكن حملوا «يرضيان» على «رضيا»، كما حملوا «أعطيا» على «يعطيان»، ولم يقولوا: «أعطوا»، وذلك ليجري الباب على سننٍ واحدٍ، ولا يختلف عليهم.ص١٦٢٩
٨٨-إنما امتنعوا من النُّطق بأفعال: (ويلَه ووَيحَه ووَيسَه ووَيبَه)؛ لأنه لفيفٌ مقرونٌ، فلو وضعوا له فعلًا لوقعت الواو بعد حرف المضارَعة، وذلك يوجب إعلالها بالحذف كـ (يعد ويزن ويثق) ووقعت العين، وهي حرف علَّة أيضًا ثالثةً، وذلك يوجب نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وإعلالها بالإسكان كـ (يَبيعُ ويَحيدُ) فيتوالى عليهم إعلالاتٌ في كلمةٍ واحدةٍ، وهم لا يسمحون بذلك، فرفضوا الفعل رأسًا.ص١٦٢٩
٨٩-المسك: يذكَّر بدليل قولهم: «أذفر» وقد ظنَّ بعضُهم تأنيثه محتجًّا بقوله:
مرَّت بنا ما بَيْنَ أتْرَابِها
والمِسْكُ مِن أَرْدَانِهَا نَافِحَهْ
ولا يثبُتُ التأنيثُ بمثل ذلك؛ لأنه خبرٌ عن مضافٍ محذوف، أي: رائحةُ المِسْكِ، وهذا يجوزُ عند أَمْنِ اللَّبْسِ.ص١٦٣٢
٩٠-لا يشترطُ في بَدَل النَّكِرة من المعرفة اتحادُ اللفظين، وشَرَطَهُ الكوفيُّون. محتجِّينَ بقوله تعالى: ﴿بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ﴾، واحتج البصريُّونَ بقول الشاعر:
فَلَا وأَبِيكَ خَيْرً منْكَ أَني --- لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ. ص١٦٥٢
٩١-احتمالُ اللَّفظ للمعنى شيءٌ، ودلالته عليه شيءٌ، فالمطلَقُ بالنسبةِ إلى المُقَيَّداتِ محتملٌ غيرُ دالٍّ، والعامُّ بالنسبةِ إلى الأفراد دَالٌّ.ص١٦٥٨
٩٢-حملُ اللَّفظِ على المعنى يُرادُ به صلاحِيَّتُهُ له تارةً، ووضعُه له تارةً، فإن أُرِيدَ بالحَمْلِ الإخبارُ بالوضعِ طُوْلِبَ مُدَّعِيه بالنَّقْلِ، وأن أُريدَ صلاحِيَّتُه لم يكْفِ ذلك في حملِه عليه؛ لأنه لا يلزمُ من الصلاحِيَّةِ له أن يكونَ مُرادًا به ذلك المعنى، هذا إن أُريدَ بالحمل الإخبارُ عن مُرَادِ المتكلِّم، وإن أُريدَ به إنشاءُ معنى يدَّعِيه صاحبُ الحَمْل، ثم يحملُ عليه الكلامَ، فإنَّ ذلك يكون وضعًا جديدًا.
فليتأملْ هذا من قولِهم: «يُحْمَلُ اللفظُ على كذا وكذا»، فكثيرٌ من النُّظَّار أطلقَ ذلك، ولا يحصلُ معناها.ص١٦٥٩
٩٣-تجرُّدُ اللفظِ عن جميع القرائنِ الدَّالَّةِ على مُرادِ المُتكلِّمِ ممتنعٌ في الخارج، وإنما يقدِّرهُ الذهنُ ويفرضُه، وإلَاّ فلا يمكنُ استعمالُه إلا مقيَّدًا بالمسند والمسند إليه ومتعلقاتِهما وأخواتِهما الدالَّة على مُرادِ المُتكلِّمِ، فإن كان كلُّ مقيَّدٍ مجازًا استحال أن يكونَ في الخارج لفظُ حقيقةٍ، وإن كان بعضُ المقيَّداتِ مجازًا وبعضها حقيقةً، فلا بُدَّ من ضابطٍ للقيودِ التي تجعلُ اللفظ مجازًا، والقيودُ التي لا تخرِجُهُ على حقيقتِه، ولن يجدَ مُدَّعُو المجازِ إلى ضابطٍ مستقيمٍ سبيلًا ألبَتَّةَ، فمَن كان لديه شيءٌ فَلْيذَكرْهُ.ص١٦٥٩
٩٤-منعُ الدلالة شيءٌ ومنعُ المدلولِ عليه شيءٌ، فالثاني مستلزمٌ للأوَّلِ من غير عكس، فمن مَنَعَ الدلالةَ مع تسليمٍ للمدلول عليه، فانتقل عنه منازِعُهُ إلى دليلٍ آخَرَ كان انقطاعًا، وإن منع المدلولَ فانتقل عنه المنازع إلى دليل آخَرَ لم يكنِ انقطاعًا، كما إذا طعن الخصمُ في شهود المُدَّعي فأقام بيِّنَةً أخرى غَيْر مطعونٍ فيها، فله ذلك. فينبغي التَّفَطُّنُ في المناظرةِ لذلك.ص١٩٥٦
٩٥-دلالةُ اللفظِ على مُدَّعَى المستدلِّ شيءٌ، ودلالَتُهُ على بطلانِ قول منازِعِهِ شيءٌ آخَرُ، وهما متلازمانِ، إن كان القولانِ متقابِلَيْنِ تقابُلَ التَّنَاقُضِ، فللمستدلِّ حينئذٍ تصحيحُ قولِهِ بأيِّ الطريقينِ شاء، وإن تقابلا تقابُلَ التَّضادِّ لم يلزمْ من إقامتِهِ الدليلَ على بُطلانِ مذهبِ منازعِهِ صِحَّةُ مذهبِه هو بجواز بطلانِ المذهبينِ، وكون الحقِّ في ثالثٍ، وإن أقام دلَيلًا على صحةِ قولِهِ لزمَ منه بطلانُ قول منازعِهِ لاستحالةِ جمعِ الضِّدَّيْنِ. ص١٦٦١
٩٦-الاستدلالُ شيءٌ والدلالةُ شيءٌ آخَرُ ، فلا يلزمُ من الغَلَطِ في أحدِهما الغلطُ في الآخَرِ، فقد يغلطُ في الاستدلال والدلالةُ صحيحةٌ، كما يستدلُّ بنصٍّ منسوخٍ أو مخصوصٍ على حكمٍ، فهو دالٌّ عليه تناولًا، والغَلَطُ في الاستدلال لا في الدلالةِ.
وعكْسُه: كما إذا استدللنا بالحَيْضة الظاهرة على براءة الرَّحِم، فحكمنا بحِلِّها للزوجِ، ثم بانَتْ حاملًا، فالغَلَطُ هنا وقعَ في الدلالةِ نفسِها لا في الاستدلالِ، فَتَأَمَّلْ هذه الفروقَ.ص١٦٦٢
٩٧-تسليمُ موجبِ الدليل لا يستلزمُ تسليمَ المُدَّعى إلَّا بشرطين:
أحدهما: أن يكونَ موجِبَهُ هو المدَّعى بعينِهِ أو ملزومُ المُدَّعى.
الثاني: أن لا يقوم دليلٌ راجحٌ أو مساوٍ على نقيص المدَّعى، ومع وجود هذا المعارِض، لا يكون تسليمُ موجب الدليلِ الذي قد عُوْرضَ تسليمًا للمُدَّعى؛ إذْ غايتُه أن يعترفَ له منازعُهُ بدلالة دليلِهِ على المدَّعى، وليس في ذلك تعرَّضٌ للجوابِ عن المعارضِ، ولا يتمُّ مُدَّعاه إلَّا بأمرينِ جميعًا. ص١٦٦٢
٩٨-قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] أنَّثَ عَدَدَ الأمثالِ لتأويلِها بحسناتٍ، ومثلُهُ قراءة أبي العاليةِ: ﴿لا تَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها﴾، بالتاء، والفعل مسندٌ إلى الإيمان، لكنَّه طاعةٌ وإثابةٌ في المعنى.ص١٦٦٤
٩٩-الجهلُ قسمان:
بسيطٌ، وهو عبارةٌ عن عَدَم المعرفةِ مع عَدَمِ تلبُّسٍ بضِدٍّ.
ومُرَكَّبٌ، وهو جهلُ أربابِ الاعتقاداتِ الباطلةِ، والقسمُ الأول هو الذي يطلبُ صاحبُه العلمَ، أما صاحبُ الجهلِ المُرَكَّبِ فلا يطلبُهُ.ص١٦٦٥
١٠٠-الأجداثُ: القبورُ، وفيها لغتانِ: بالثاء والفاء، أهلُ العالية تقولُه: بالثاء، وأهلُ السَّافلة بالفاء.ص١٦٦٥
١٠١-في النوم فائدتان: إحداهما: إنعكاسُ الحرارةِ إلى الباطنِ، فينهضمُ الطعامُ. الثانية: استراحةُ الأعضاءِ التي قد كلَّتْ بالأعمالِ. ص١٦٦٥
١٠٢-قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦)﴾ [الرحمن: ٢٦]، ولم يقل: فيها؛ لأن عند الفناءِ ليس الحالُ حالَ القرار والتَّمكينِ.ص١٦٦٧
١٠٣-إنْ قيلَ: لِمَ كان عاشوراءُ يكفِّر سَنَةً، ويوم عرفَةَ يكفِّرُ سنتينِ؟
قيل: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ يومَ عَرَفَةَ في شهرٍ حرامٍ وقبلَهُ شهرٌ حرام وبعدَه شهرٌ حرامٌ، بخلافِ عاشوراءَ.
الثاني: أن صومَ يومِ عَرَفَةَ من خصائصِ شرعِنا، بخلافِ عاشوراءَ، فضُوعِفَ ببركات المصطفى، والله أعلم.
آخر هذه الفوائد.
وقد كان الفراغ من نقل ما تقرأ قُبالة الكعبة في بيت الله الحرام في بضع ليال وأيام، أحسن الله عاقبتها في الأمور كلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.