ما ورد في فضل الرماح

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الرماح في كتابه، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94].

وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعْبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعِل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمري، ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم".

وفي "سنن ابن ماجه" عن علي بن أبي طالب قال: "كانت بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوسٌ عربيَّة، فرأى رجلًا بيده قوس فارسيَّة، فقال: ما هذه؟ ألقِها وعليك بهذه وأشباهها ورماح القَنا؛ فإنهما يزيد الله بهما في الدين، ويمكِّن لكم في البلاد".

والرماح للمقاتلة بمنزلة الصياصي للوحوش تدفع بها من يقصدها، وتحارب بها، وقد نصَّ الإمام أحمد على أن العمل بالرمح أفضل من الصلاة النافلة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد.

والفروسية تظهر في ثلاثة أشياء:

- ركوب الخيل، والمسابقة عليها.

- ورمي النشاب.

- واللعب بالرمح، وهو بنود كثيرة، ومبناه على: الطعن والتبطيل والنقل والتسريح والنثل، والدخول، والخروج.

ومداره على أصلين: الطعن والتبطيل.

فالشجاع الخبير: الذي لا يطعن في موضع التبطيل، ولا يبطل في موضع الطعن، بل يعطي كل حالٍ ما يليق به، ويعرف حكم ملازقة القِرْن ومفارقته، ومخارجته ومضايقته، وهزله وجدّه، وأخذه ورده، وطلوعه ونزوله، وكرّه وفرّه، ويعطي كل حال من هذه الأحوال كُفْأها وما يليق بها، ويكون عارفًا بالدخول، ومواضع الطعن والضرب، والإقدام والإحجام، واستعمال الطعن الكاذب في موضعه والصادق في موضعه، والاستدارة عند المجاولة يمينًا وشمالًا، وإعمال الفكر حال دخول القِرْن على قِرْنه: في الخروج منه والدخول عليه، فلا يشغله أحدهما عن الآخر.

ولما كان الجِلاد بالسيف والسنان والجدال بالحجة والبرهان كالأخوين الشقيقين والقرينين المتصاحبين= كانت أحكام كل واحد منهما شبيهة بأحكام الآخر، ومستفادة منه.

فالإصابة في الرَّمي والنِّضَال، كالإصابة في الحُجَّة والمَقَال، والطعن والتبطيل نظير إقامة الحجة وإبطال حجة الخصم، والدخول والخروج نظير الإيراد والاحتراز منه، وجواب الخصم والقِرْن عند دخوله عليك، كجواب الخصم عمَّا يُوْرده عليك.

فالفروسية فروسيَّتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطِّعان.

ولمَّا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في الفروسيَّتين، فتحوا القلوب بالحجَّة والبُرْهان، والبلاد بالسيف والسِّنان.

وما الناس إلا هؤلاء الفريقان، ومن عداهما؛ فإن لم يكن رِدءًا وعونًا لهما، فهو كَلٌّ على نوع الإنسان.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجدال الكفار والمنافقين، وجِلاد أعدائه المشاقِّين والمحاربين، فعُلِم أن الجِلَاد والجِدَال من أهم العَلوم وأنفعها للعباد، في المعاش والمعاد، ولا يَعْدِلُ مِداد العلماء إلا دمُ الشهداء، والرفعة وعلو المرتبة في الدَّارين إنما هي لهاتين الطائفتين، وسائر الناس رعيةٌ لهما، منقادون لرؤسائهما.

 

فصلٌ

فإن قيل: فإذا كان شأن الرمح ما ذكرتم؛ فهلَّا جوَّزتم الرهان على الغلبة به كما جوّزتموها في النِّضال وسباق الخيل؟

قيل: اختلف الفقهاء في ذلك، فمنعه أصحاب أحمد، ومالك، وللشافعية في المزاريق وجهان.

* قال من جوَّز الرهان عليها: هي داخلةٌ في اسم النَّصل.

* وقال المانِعون: المُراد بالنَّصْل ما يتبادر إليه الأفهام، وما قد جرت عادة الناس بالتَّراهن عليه من عهد الصحابة وإلى الآن، وهو السهام خاصة.

ولا ريب أن من جَوَّز الرهان على العَدْوِ بالأقدام والصراع؛ فتجويزه له في المغالبة بالرماح أولى وأحرى.

 

فصلٌ

وأما‌‌ ركوبه الفرس عُريانًا، وتقلده بالسيف:

ففي "الصحيحين" من حديث ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فَزِع أهل المدينة ليلة، فركب فرسًا لأبي طلحة عُرْي، فخرج الناس، فإذا هم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سبقهم إلى الصوت، قد استبرأ الخبر، وهو يقول: لَنْ تُراعُوا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَدْناه بحرًا".

قال ثابت: "فما سُبِق ذلك الفرس بعد ذلك، قال: وكان فرسًا يبطأ".

وفي لفظ: "فاستقبل الناس على فرَسٍ عُرْي لأبي طلحة، والسيف في عُنُقه".

وفي صفته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الأولى: "عزُّه على عاتقه". إشارة إلى تقلُّده السيف.

وفيها أيضًا صفته وصفة أمته: تتقلَّد السيوف، كما في "الزبور" في بعض المزامير: "من أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد، فتقلَّد أيها الخيار السيف؛ لأنه البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، لتركب كلمة الحق، وسَمْتَ التألُّه، فإن ناموسك وشرائعك مقرونةٌ بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يجرون تحتك".

وليس من الأنبياء مَن تقلَّد السيف بعد داود، وخرت الأمم تحته، وقُرِنت شرائعه بالهيبة؛ سوى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال: "نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر".

وفي صفة أمته في "الزبور": "وليفرح مَن اصطفى الله أمَّته، وأعطاه النصر، وسدَّد الصالحين منهم بالكرامة، يسبِّحونه على مضاجعهم، ويكبِّرون الله تعالى بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه".

وهذه الصفات منطبقة على محمد - صلى الله عليه وسلم – وأُمَّته.


الفروسية المحمدية - ط عطاءات العلم (1/ 80 - 87)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله