غلط الطوائف في فهم حقيقة الإيمان

وأما الإيمان فأكثر الناس -أو كلُّهم- يَدَّعونه، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

وأكثرُ المؤمنين إنما عندهم إيمانٌ مجملٌ، وأما الإيمانُ المفصلُ بما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- معرفةً وعلمًا وإقرارًا ومحبةً ومعرفةً بضدِّه وكراهيته وبُغْضِهِ؛ فهذا إيمانُ خواصِّ الأمة وخاصَّةِ الرسول، وهو إيمانُ الصِّدِّيقِ وحزبِهِ.

وكثيرٌ من الناس حظُّهم من الإيمان الإقرارُ بوجود الصانع، وأنَّه وحده هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن يُنكرِه عُبَّادُ الأصنام من قُريش ونحوهم!

وآخرون الإيمانُ عندهم هو التكلُّمُ بالشهادتين، سواءٌ كان معه عملٌ أو لم يكن، وسواءٌ وافقَ تصديقَ القلب أو خالفه!

وآخرون عندهم الإيمانُ مجرَّدُ تصديق القلب بأن الله سبحانه خالقُ السماوات والأرض وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وإنْ لم يُقِرَّ بلسانه ولم يَعملْ شيئًا، بل ولو سَبَّ اللهَ ورسولَه وأتى بكلِّ عظيمةٍ وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله؛ فهو مؤمنٌ!

وآخرون عندهم الإيمانُ هو جحدُ صفات الربِّ تعالى من علوِّه على عرشه، وتكلُّمِه بكلماته وكُتُبهِ، وسمعِهِ وبصرِهِ ومشيئتِهِ وقدرتِهِ وإرادتِهِ وحُبِّهِ وبُغضِهِ، وغيرِ ذلك مما وصفَ به نفسَه ووصفه به رسولُه؛ فالإيمانُ عندهم إنكارُ حقائقِ ذلك كلِّه وجَحْدهُ والوقوفُ مع ما تقتضيه آراءُ المتهوِّكين وأفكارُ المخرِّصين، الذي يرُدُّ بعضهم على بعض ويَنقُض بعضُهم قول بعض، الذين هم كما قال عمرُ بن الخطاب والإمام أحمدُ: مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متَّفقون على مفارقةِ الكتاب.

وآخرون عندهم الإيمانُ عبادةُ الله بحُكْمِ أذواقِهم ومواجيدِهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به الرسولُ.

وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنًا ما كان، بل إيمانهم مبنيٌّ على مقدِّمتين: إحداهما: أن هذا قولُ أسلافنا وآبائنا. والثانية: أن ما قالوه فهو الحقُّ.

وآخرون عندهم الإيمان مكارمُ الأخلاق وحسنُ المعاملة وطلاقةُ الوجه وإحسانُ الظنِّ بكل أحدٍ وتخليةُ الناسِ وغفلاتِهم.

وآخرون عندهم الإيمان التجرُّدُ من الدُّنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزُّهد فيها؛ فإذا رأوا رجلًا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخًا من الإيمان علمًا وعملًا.

وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمانَ هو مجرد العلم وإن لم يُقارِنْه عملٌ.

وكلُّ هؤلاء لم يَعرِفوا حقيقةَ الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم.

وهم أنواعٌ: منهم من جعل الإيمانَ ما يضادُّ الإيمانَ، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يُعتبرُ في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرطٌ فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يُناقِضُه ويُضادُّه، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.

والإيمان وراء ذلك كلِّه.

وهو حقيقةٌ مركبةٌ من: معرفة ما جاء به الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- علمًا، والتصديق به عقدًا، والإقرار به نُطقًا، والانقياد له محبَّةً وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.

وكماله في: الحبِّ في الله، والبُغْضِ في الله، والعطاءِ لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهَهُ ومعبوده.

والطريق إليه: تجريدُ متابعة رسولهِ ظاهرًا وباطنًا، وتغميضُ عين القلبِ عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله. وبالله التوفيق


الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 154 - 156)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله