فضل الجهاد في سبيل الله

وقد تظافرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنَّة على الترغيب في الجهاد، والحضِّ عليه، ومدحِ أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربِّهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات. ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف/ 10] فتشوفت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدالُّ عليها ربُّ العالمين العليم الحكيم، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها، فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني أنَّ الجهاد خير لكم من قعودكم طلبًا للحياة والسلامة. فكأنَّها قالت: فما لنا في هذا الجهاد من الحظّ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} مع المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فكأنّها قالت: هذا في الآخرة فماذا لنا في الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها وتسييرًا إلى ربِّها، وما ألطف موقعها من قلب كلّ محبّ! وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشَه حين تباشره معانيها! فنسأل اللَّه من فضله إنَّه جوادٌ كريم.

ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة/ 19 - 22]. فأخبر سبحانه أنَّه لا يستوي عنده عُمَّار المسجد الحرام -وهم عُمَّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن- وأهلُ سقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيله. وأخبر أنَّ المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنَّهم هم الفائزون، وأنَّهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنَّات. فنفي التسوية بين المجاهدين وعمَّار المسجد الحرام بأنواع العبادة، مع ثنائه على عُمَّاره بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة/ 18]. فهؤلاء هم عمَّار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند اللَّه منهم.

وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/ 95 - 96]. فنفى سبحانه التسويةَ بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثمَّ أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة، ثمَّ أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 775 - 777)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله