فوائد في تفسير سورة الكافرون وما فيها من أسرار

وأما قوله عز وجل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2 - 3] فـ "ما" على بابها، لأنها واقعة على معبوده - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به؛ فقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] أي: أنتم لا تعبدون معبودي، ومعبوده هو - صلى الله عليه وسلم - كان غارفًا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.

وقال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة، أي: لا تعبدون عبادتي، ويلزم من تبريتهم عن عبادته تبريهم من المعبود؛ لأن العبادة متعلِّقة به، وليس هذا بشيء! إذ المقصود براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده -تعالى- فالمقصود المعبود لا العبادة.

وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته - صلى الله عليه وسلم - حسدًا له، وأَنَفَةً من اتباعه، فهم لا يعبدون معبودة، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وحرصًا على مخالفته في العبادة، وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمغنى الرفيع إلا لفظ "ما"؛ لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.

وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قَصْد ازدواج الكلام [أصلٌ] في البلاغة والفصاحة، مثل قوله تعالى: {نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فكذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدَوَجَ مع هذا الكلام قوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5]، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا "من" كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ}، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: 31]، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} [يونس: 31] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] إلى أمثال ذلك.

وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو: أن المقصود هنا ذِكْر المعبود الموصوف بكونه أهلاً للعبادة مستحقًّا لها، فأتى بـ "ما" الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة "من"؛ لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذِكْر الصِّلة تعريفًا لا أنه هو جِهَة العبادة، ففَرْقٌ بين أن كونه -تعالى- أهلاً لأن يعبد تعريفٌ محض، أو وصف مقتضٍ لعبادته، فتأمله فإنه بديع جدًّا.

وهذا معنى قول محققي النحاة: إن "ما" تأتي لصفات من يعلم، ونظيره: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لما كان المراد الوصف وأنه هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب، فتنكح المرأة الموصوفة به، أتى بـ "ما" دون "من "، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.

وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية زائدة على ذلك وهي: تكرير الأفعال في هذه السورة.

ثم فائدة ثالثة وهي: كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي.

ثم فائدة رابعة وهي: أنه جاء في نفي عبادة معبودهم عنه بلفظ الفعل المستقبل، ونجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.

ثم فائدة خامسة وهي: كون أداة النفي هنا "لا" دون "لن".

ثم فائدة سادسة وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا: أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للخفي والإثبات، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله"، فلِمَ جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سرُّ ذلك؟ ..

وفائدة سابعة وهي: ما حِكْمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟

وفائدة ثامنة وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] ولم يجئ: {يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟.

وفائدة تاسعة وهي: هل في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] معنى زائد على النفي المتقدم؟ فإنه يدلّ على اختصاص كلٍّ بدينه ومعبوده، وقد فُهِم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟.

وفائدة عاشرة وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص. وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.

وفائدة حادية عشرة وهي: أَنَّ هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الإخبار:

أحدهما: براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدًا.

الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم، فهل هذا مُتَارَكَة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار؟ أم الآية باقة على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة؟.

فهذه عشر مسائل فى هذه السورة قد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهى وقوع "ما" فيها بدلاً عن "من " فنذكر المسائل التسع مُسْتمدين من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ فما كان من صوابٍ فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.

فأما المسألة الثانية: وهي فائدة تَكْرَار الأفعال، فقيل فيه وجوه؛ أحدها: أن قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، نفي للحال والمستقبل، وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، مقابله أي: لا تفعلون ذلك، وقوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}، أي: لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي، فقال: {مَا عَبَدْتُمْ}، فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، مقابله، أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا.

وعلى هذا فلا تَكْرَار أصلًا، وقد استوفت الآياتُ أقسام النفي ماضيًا وحالاً ومستقبلاً، عن عيادته وعبادتهم، بأوجز لفظ وأخصَرِه وأبيَنِهِ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها، فلنقتصر عليه ولا نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها، فعليك بها.

وأما المسألة الثالثة وهي: تكرير الفعل بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.

ففي ذلك سرٌّ وهو: الإشارة والإيماء إلى عِصمة الله له عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً ولا يبغي عنه حِوَلاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءَهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم بصَدَد أن يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره، فقال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، يعني: الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أنا الآن -أيضًا- ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} يعني: ولا أنا فيما يُسْتَقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون. وأشبهت "ما" هنا رائحةُ الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: "مهما عبدتم من شيءٍ فلا أعبده أنا".

فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة فما أبعد الشرط منها؟!.

قلنا: لم نقل أنها شرط نفسُها، ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه؟ لوقوعها على غير معَيَّن وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديًا على صفحاته. فإذا قلت لرجلٍ ما -تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل ما تفعل، ألستَ ترى معنى الشرط قائمًا قي كلامِكَ وقصدك؟ وأن روح هذا الكلام: مهما فعلتَ من شيءٍ فإني لا أفعله. وتأمل ذلك في "مَنْ"، مثل قوله تعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى وقع الفعل بعد "مَنْ" بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى: مَنْ كان في المهد صبيًا فكيف نكلمه؟ في هذا هو المعنى الذي حامَ حوله من قال من المفسرين والمعربين: إن "كان" هنا بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إله من بابه، بل ألقوه عُطْلاً من تقدير وتنزيل، وعزب عن فهم غيرهم هذا للُطْفه ودقَّته، فقالوا: "كان" زائدة، والوجه ما أخبرتك به، فخده عَفْوًا، لك غُنمه وعلى سِوَاك غرمه، هذا مع أن "مَن" في الآية قد عمل فيها الفعل، وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}، وهذا كلُّه مفهومٌ من كلام فحول النحاة، كالزَّجَّاج وغيره.

فإذا ثبت هذا، فقد وضَحَت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}، بخلاف قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، لبعد "ما" فيها عن معنى الشرط؛ تنبيهًا من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.

وأما المسألة الرابعة وهي: أنه لم يأتِ النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارةً وباسم الفاعل أُخرى، فذلك -والله أعلم- لحكمة بديعة، وهى: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولاً بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غيرِ اللهِ لا تكون فعلًا لي ولا وصفًا، فأتى بنفيين لحنفيَّين مقصودَيْن بالنفي.

وأما في حقهم؛ فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، أي: إن الوصف الثابت اللازم للعابد لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتًا لكم وإنما يثبت لمن خص اللهَ وحدَه بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونُفِيَ الوصفُ؛ لأن من عبدَ غيرَ اللهِ، لم يكن ثابتاً على عبادة الله موصوفًا بها.

فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه: عابدُ الله وعبدُه والمستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته وتبتَّل إليه تبتيلًا لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره؛ فليس عابدًا لله ولا عَبْدًا له، وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن، وهذا لا يفهمه كلُّ أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة.

وأما المسألة الخامسة وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة "لا" دون "لن"، فلِمَا تقدم تحقيقُه عن قربٍ: أن النفي بـ "لا" أبلغ منه بـ "لن"، وأنها أدل على دوام النفي وطوله من "لن"، وأنها للطول: والمد الذي في لفظها طال النفي بها وامتد، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة، وأن "لن" إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدَّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق، فالإتيان بـ "لا" مُتَعين هنا؟ والله أعلم.

وأما المسألة السادسة وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض؛ فهذا هو خاصَّة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءةٍ من الشرك، كما جاء في وصفها: "أنها بَرَاءةٌ مِنَ الشِّرْك"، فمقصودُها الأعظم هو البراءة المطلقة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحًا فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} براءة محضة، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} إثبات أن له معبودًا يعبده وأنهم بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قولَ إمام الحنفاء: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27]، وطابقت قول الفِتْية الموحدين: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] فانتظمت حقيقةَ لا إله إلا الله، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في سنة الفجر وسنة المغرب، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعَي التوحيد، الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمِّن تنزيه الله عما لا يليق به مِن الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أَحَدٌ صَمَد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمنت السورةُ إثبات ما يليق بجلالة من صفات الكمال ونفي ما لا يليقُ به من الشريك أصلًا وفرعًا في نظيرًا، فهذا توحيد العِلْم والاعتقاد.

والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته عباده، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نَوْعَي التوحيد وأخلصتا له، فكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بهما النَّهار. في سُنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب. وفي "السنن" أنه. كان يوتر بهما، فيكونا خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار، ومن هنا تخريجُ جواب: المسألةِ السابعةِ وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتْبعها ببراءَتهم من معبوده فتأمله فإنه واضح.

وأما المسألة الثامنة وهي: إثباته هنا بلفظ: "يا أيها الكافرون" دون: "يا أيها الذين كفروا"؛ فسرُّه -والله أعلم-: إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه؛ فهو حقيقٌ أن يتبرأَ اللهُ منه، ويكون هو -أيضًا- بريئًا من الله، فحقيق بالموحِّد البراءة منه، فكان ذكره في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانية بحقيقةِ حاله التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازمٌ لكم ثابتٌ لا تنتقلون عنه؛ فمجانبتكم والبراء منكم ثابت دائم أبدًا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدَّال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر، وهذا واضح.

وأما المسألة التاسعة وهي: ما هي الفائدة في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وهل أفاد هذا معنًى زائدًا على ما تقدَّم؟.

فيقال: في ذلك من الحكمة -والله أعلم- أنَّ النفيَ الأول أفاد البراءة، وأنه لا يُتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم، وهم -أيضًا- لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفادَ آخرُ السورة إثبات ما تضمنه ذلك الخفي مِنْ توحيده له، وأنه حظه ونصيبه وقسمه، فإن ما تضمنه الخفي من جهتهم من الشرك والكفر هو حظهم وقسْمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضًا فقال له: "لا تدخل في حَدِّي ولا أدخل في حَدك، لك أرضك ولي أرضي"، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنّا اقتسمنا حِصَّتنا بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان؛ فهو نصيبُنا وقَسْمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقَسْمكم الذي تختصون به لا نشرككم فيه.

فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه. وهذه المعاني ونحوها إذا تجلَّت للقلوب رافِلَةً قي حُللها فإنها تَسْبي القلوبَ وتأخذ بمجامِعِها، ومن لم يصادف من قلبه حياة؛ فهي:

* خَوْدٌ تُرَفُّ إلى ضَرِيرٍ مُقعدِ *

فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها، ونسأله تمام نِعْمته.

وأما المسألة العاشرة وهي: تقديم قِسْمهم ونصيبهم على قَسْمه ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم، فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحولُ البلاغة وفرسائها، فإن السورةَ لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضيَ كلٌّ بقسمه، وكان المحِقُّ هو صاحب القسمة، وقد برز النصيبين وميَّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أَرْدَأ منه، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشِفاء، فرضيَ مُقاسِمة بالسمِّ، فإنَّه يقول له: لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك ولي قسمي.

فتقديم ذكر قسمة هاهنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: "هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم"، فكان في تقديم ذِكر قسْمِه من التهكُّم به والنداء على سوء اختاره وقُبْح ما رضيه لنفسه من الحُسْن والبيان ما لا تجده في ذكر تقديم قسم نفسه. والحاكم في هذا هو الذوقُ، والفَطِنُ يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجعُ فيه كثرةُ البيان.

ووجهٌ ثانٍ وهو: أن مقصود السورة براءته - صلى الله عليه وسلم - من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبّها ومَغْزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملًا لبراءته ومحققًا لها، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أولِ السورة، ثم جاء قوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ} مطابقًا لهذا المعنى، أي: لا أُشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه، بل هو دينٌ تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدًا، فطابقَ آخرُ السورةِ أوَّلَها، فتأمَّلْهُ.

وأما المسألة الحادية عشرة وهي: أن هذا الإخبار بأنَّ لهم دينَهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟.

فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف؛ لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقرُّون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط مَحْض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نصٌّ محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه.

وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدَّم، ومنشأُ الغلطِ: ظنُّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ.

وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتابَ لهم، فقالوا: هذا مخصوص، ومعاذَ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، بل لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكارِ عليهم وعيب دينهم وتقبيحِه والنهي عنه والتهديد لهم والوعيد كل وقت وفي كل ناد. وقد سألوه أن يكفَّ عن ذكر آلهتهم، وعَيْب دينهم، ويتركونه وشأْنَه؛ فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟! معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدَّم، وأن ما هم عليه من الدين لا أوافقكم عليه أبدًا، فإنه دينٌ باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصُّل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدَّعى النسخ أو التخصيص؟ أفتَرَى إذا جُوهِدُوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة، لا يصح أن يقال لهم: لكم دينكم ولي دين. بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهِّر الله منهم عبادَه وبلاده.

وكذلك حكمٌ هذه البراءة بين أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاءَ به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.

فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة، المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها، من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانٍّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علَّمه الله وأَلهمه بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها، وعسى اللهُ المانّ بفضله الواسع العطاء، الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسير على هذا النمط، وهذا الأسلوب، وقد كتبتُ على مواضعَ متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته.


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 234 - 249)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله